جدل حول الدراسة الألمانية الأخيرة بشأن مناعة 14% من السكان ضد فيروس كورونا

6 دقائق
مصدر الصورة: تايز كابتشرز عبر أنسبلاش
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بحسب الأرقام الرسمية المسجلة، فإن عدد المصابين بفيروس كورونا المستجد قد اقترب من 2 مليون شخص حتى تاريخ نشر هذه المقالة، وهذا الرقم يشير فقط إلى الأشخاص الذين خضعوا لفحص الكشف عن الفيروس ضمن أحد المستشفيات أو المراكز الصحية الرسمية المعتمدة، ولكن معظم المعلومات المتوافرة حالياً حول الفيروس تشير إلى أن الكثير من المصابين به لا يُظهرون أعراضاً متقدمة، ولا يشعرون بأي مشاكل صحية تستوجب ذهابهم للفحص. هذا الأمر يعني أن هنالك شريحة من السكان قد تعرضت للإصابة بالفيروس، وشُفيت منه وكوّنت مناعة ضده دون أي علم أو إدراك من الأفراد المنتمين لهذه الشريحة.

كم يبلغ عدد هؤلاء الأفراد؟ أي ما نسبة الأشخاص الذين أصيبوا بالفيروس وتم شفاؤهم منه وتشكلت لديهم مناعة ضده؟ سيكون من الصعب الإجابة عن هذا السؤال دون وجود بياناتٍ تجريبية يمكن الاستناد إليها، فعلى الرّغم من أن أدوات الرياضيات قادرة على مساعدتنا في فهم العديد من النواحي المتعلقة بانتشار الفيروس، إلا أنها لن تكون قادرة على اكتشاف الأشخاص الذين أصيبوا بالفيروس وشُفُوا منه ولم يظهروا أي أعراض أو أظهروا أعراضاً خفيفة.

تحديد هؤلاء الأشخاص يتطلب إجراء اختبار مسحي لعينة سكانية، وهو ما تم مؤخراً في ألمانيا عبر دراسةٍ لا يزال صداها يثير ضجةً كبيرة داخل وخارج ألمانيا؛ فمن ناحية، تحمل الدراسة أخباراً إيجابية وممتازة فيما يتعلق بالمناعة الجماعية المتشكلة لدى السكان ضد فيروس كورونا المستجد، ومن ناحيةٍ أخرى، حملت الدراسة تشكيكاً كبيراً من قٍبل الأوساط العلمية في ألمانيا نظراً للطريقة التي تم فيها عرض النتائج الأولية والاستنتاجات التي بنيت عليها، وكذلك غياب معلومات كافية حول الطرق والإجراءات المستخدمة فيها. 

حول الدراسة

تمت الدراسة بقيادة البروفيسور هندريك شتريك Hendrik Streeck، وهو باحث في مجال علم الأوبئة والأمراض المعدية مع تخصصٍ في مجال أبحاث فيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، وهو مدير معهد أبحاث الفيروسات في كلية الطب التابعة لجامعة بون. جلب هندريك شتريك لنفسه سمعة كبيرة ليس فقط بسبب دوره في قيادة الدراسة، وإنما بسبب الجدل الكبير الذي سببته الدراسة وتفاصيلها وطريقة عرض نتائجها التي تمت ضمن مؤتمرٍ صحفيّ كبير في مدينة دوسلدورف بتاريخ 9 أبريل 2020، كشف فيه البروفيسور عن النتائج الأولية للبحث وعرض أيضاً استنتاجاتٍ وتوصياتٍ حول الإجراءات المجتمعية التي يمكن تطبيقها على ضوء نتائج الدراسة.

وقبل الحديث عن الضجة والجدل المثار حالياً في ألمانيا، لنعد قليلاً ونستعرض الدراسة وماذا تم فيها: تم إجراء مسح لسكان بلدة جانجيلت التي يبلغ عدد سكانها 11634 نسمة، والواقعة في ناحية هاينزبرج في ولاية شمال الراين وستفاليا. شكلت ناحية هاينزبرج البؤرة الأولى لتفشي فيروس كورونا المستجد في ألمانيا والمنطقة التي بقيت لفترة طويلة صاحبة أعلى معدل إصابات في ألمانيا. تم المسح بشكلٍ عشوائيّ عبر إرسال استمارات مع أدواتٍ يمكن عبرها مسح عينة من الحلق التي تستخدم في اختبارات تفاعل البوليميراز التسلسليّ PCR الهادف للكشف عن إصابة الأفراد بالفيروس، وقد تم إرسال هذه الاستمارات إلى حوالي 600 منزل، ووافق سكان 400 منزل على المشاركة في الدراسة وهذا يعني حوالي 1000 فرد. لم يعلم القائمون على الدراسة بشكل مسبق حالة الأفراد المشاركين بالدراسة، وتم التركيز على أن تكون العينة عشوائية ليكونوا قادرين على الخروج بنتائج قابلة للتعميم من الناحية الإحصائية. 

بعد حوالي 10 أيام من بدء الدراسة تم إنهاء الفحوصات والاختبارات لحوالي نصف المشتركين، ولذلك تم عرض النتائج الأولية من قبل هندريك شتريك التي تظهر أرقاماً مفاجئة وتحمل دلالاتٍ إيجابية جداً؛ حيث بلغ عدد المصابين بفيروس كورونا المستجد من ضمن العينة المشاركة بالدراسة حوالي 2%، كما أن نسبة الأشخاص الذين تم التأكد من امتلاكهم مناعة ضد الفيروس بلغت 14% من إجماليّ الأشخاص المشاركين في الدراسة، وبحسب الوثيقة الرسمية الخاصة بالنتائج الأولية للدراسة، فإن تحديد ما إذا كان الشخص يمتلك مناعة ضد الفيروس هو أمرٌ تم عبر الكشف عن نوعٍ خاص من البروتينات المعروفة باسم الأجسام المضادة Antibodies وتحديداً من الأنواع IgA وIgG. 

وبالإضافة إلى تحديد عدد الأشخاص الذين يمتلكون مناعةً ضد الفيروس والمرض الناتج عنه، كشف الإعلان الرسميّ الخاص بالنتائج الأولية للدراسة عن أرقام إيجابية أخرى: عند اعتبار كل الحالات التي تمتلك مناعةً ضد الفيروس ضمن العينة الإحصائية الخاصة بالإصابات، فإن هذا يعني أن نسبة الوفيات هي أقل بكثير من الأرقام الرسمية. يتم قياس نسبة الوفيات عبر معرفة عدد الأشخاص الذين ثبتت وفاتهم بسبب المضاعفات الصحية الناتجة عن مرض كوفيد-19 بالنسبة لعدد الإصابات الكلي، ويتم قياس عدد الإصابات الكلي عبر إجراء اختبارات خاصة في مراكز الرعاية الصحية، ولكن بحسب الدراسة، فإن الكثير من الأشخاص سبق وأن أصيبوا بالفعل بالفيروس وامتلكوا مناعةً ضده، وبالتالي فإن عدد الإصابات الحقيقي أكبر بكثير من عدد الإصابات المعلن عنه بشكلٍ رسميّ، وبالتالي فإن نسبة الوفاة هي أقل بكثير.

بلغة الأرقام، تُشير النتائج الأولية إلى أن 15% من سكان بلدة غانغليت قد أصيبوا بالفعل بالمرض، وهذا الرقم يشمل المصابين الحاليين والسابقين، وبالتالي فإن نسبة الوفيات في البلدة هي بحدود 0.37%. عند تعميم الأرقام على مستوى ألمانيا فإن 15% من السكان يعني إصابة 12555000 شخص من أصل عدد السكان الإجماليّ البالغ 83 مليون نسمة، وعند قياس نسبة الوفيات بحسب الأعداد الرسمية، فإن الدراسة تكشف أن نسبة الوفيات الفعلية على مستوى ألمانيا هي 0.06%، وذلك بالمقارنة مع حوالي نسبة الوفيات الرسمية المعلن عنها التي تبلغ حالياً حوالي 2%. 

على ضوء هذه الأرقام، أعلن هندريك شتريك المشرف على الدراسة -وبحماسةٍ كبيرة- أنه سيكون بالإمكان البدء بالحديث عن تخفيف إجراءات الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، التي تمثل المرحلة الثانية من الخطة رباعية المراحل التي أعلنت عنها الجمعية الألمانية للعقامة والنظافة في المستشفيات، حيث تمثل المرحلة الثانية البدء بتخفيف بعض القيود مثل التجمعات والذهاب للعمل مع الإبقاء على قيود النظافة الشخصية وحظر زيارة الكبار بالسن والمرضى في المستشفيات. ساهم المؤتمر الصحفي الذي أجراه هندريك شتريك وما تبعه من إعلانات في دفع رئيس وزراء ولاية شمال الراين وستفاليا للإعلان عن البدء بأخذ موضوع تخفيف القيود الصحية والبدء بإعادة بعض النشاطات لطبيعتها. 

عاصفة من الانتقادات: النتائج متسرعة وغير موضوعية 

على الرّغم من الصدمة الإيجابية الأولية التي أحدثتها الأخبار الناتجة عن الدراسة، والتي تم تداولها على نطاقٍ واسع داخل وخارج ألمانيا، بدأت الشكوك والانتقادات من المختصين في الوسط العلمي بالتزايد. أول الأمور التي تم انتقادها بشدة هي التسرع بإعلان النتائج الأولية بعد فحص حوالي 500 شخص، بل كان يجب الانتظار حتى استكمال مسح كامل أفراد الشريحة السكانية المستهدفة في الدراسة، فالنتائج المستخلصة من عينة حجمها 500 شخص لا يمكن استخدامها للتعميم على بلدٍ عدد سكانه 83 مليون نسمة، والأسوأ هو انتشار نتائج الدراسة كالنار في الهشيم حول العالم؛ إذ تم تغطيتها على نحوٍ واسع من قِبل العديد من الهيئات والمنصات الإعلاميةن مما نقل صورةً مفادها أن حوالي 14% من السكان يمتلكون مناعةً ضد الفيروس، وهو أمرٌ غير دقيق. الانتقاد الثاني الهام للنتائج الخاصة بالدراسة هو أن المنشور الخاص بها لم يتضمن أي تفاصيل علمية دقيقة أو شرحاً للآليات المستخدمة في فحص مناعة المرضى، أو حتى بياناتٍ حول أعمار المرضى وحالتهم الصحية. 

وعلى ضوء غياب التفاصيل المتعلقة بالدراسة وكيفية تنفيذها، وجد الكثير من علماء الأوبئة والفيروسات في ألمانيا أنه لا يمكن استخلاص أي معلوماتٍ مفيدة من الإعلان الذي قدمه هندريك شتريك، القائم على الدراسة، وذلك بحسب البروفيسور كريستيان دروستن Christian Drosten الباحث في جامعة شاريتيه في برلين، والذي يُعتبر من أبرز المختصين في مجال الأمراض المعدية والأوبئة في ألمانيا (سردت صحيفة “دي تزايت Die Zeit” الانتقادات الموجهة للدراسة بشكلٍ مفصل، ومن ضمنها انتقادات البروفيسور دروستن). يشكك البروفيسور دروستن حتى في المنهجية المستخدمة لتنفيذ الدراسة، وهو يعتقد أن من المحتمل أنه لم يتم خلال الدراسة اعتماد فحوصات تشخيص مناعية شاملة، بل تم الاعتماد على الاختبارات المخبرية التي تقوم بتوليد مؤشراتٍ حول احتمال وجود مناعة ضد مرض ما، وهو يقول إن مثل هكذا اختبارات تمتلك نسبةً عالية من الخطأ الإيجابي؛ فقد تكون الاختبارات تشير إلى مناعةٍ ضد مرض الرشح الطبيعي الناتج عن فيروس تاجي مشابه لفيروس كورونا المستجد. 

كان البروفيسور دروستن قد شارك في دراسةٍ عالمية واسعة النطاق تهدف للمساعدة في تطوير اختبارات كشف الأجسام المضادة الخاصة بمرض كوفيد-19 التي يمكن عبرها معرفة وجود مناعة ضد المرض، وقد أظهرت الدراسة أن الاختبارات الخاصة بالكشف عن الأجسام المضادة IgA وIgG ليست كافية أو ذات درجة وثوقية كافية. اعتمدت الدراسة الجديدة الخاصة بجامعة بون بشكلٍ خاص على الأجسام المضادة من نوع IgA وIgG لتحديد وجود أو عدم وجود مناعة ضد المرض. (كنا قد استعرضنا هذه الأمور بشكلٍ أكثر تفصيلاً ضمن مقالنا حول جوازات الحصانة المناعية).

بالنسبة للباحث جونتر هارتمان Gunther Hartmann من معهد الكيمياء السريرية في جامعة بون، فإن أحد أكبر الأخطاء التي وقعت فيها الدراسة هي التعميم غير الصحيح للنتائج التي تم التوصل إليها في بلدية جانجليت على كل ألمانيا. تقع البلدية في البؤرة التي انتشر منها الفيروس وهي واحدة من أكثر المناطق تضرراً من ناحية الإصابة، كما أنها بلدة صغيرة يمكن بسهولة نسبياً تعقب شجرة الإصابات فيها، وتحت هذه الشروط فإنه من غير المنطقي تعميم النتائج الخاصة بهذه البلدية على المناطق والمدن الأخرى التي تمتلك ظروفاً مختلفة ومعدل انتشار أقل بكثير. 

آخر الأمور المثيرة للشك والنقد فيما يتعلق بالدراسة هي علاقة المشرف عليها، البروفيسور هندريك شتريك، بشركة الميديا والعلاقات العامة “ستوري ماشين StoryMachine” والتي قادت حملة كبيرة للترويج للدراسة ونتائجها عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ، وهو أمرٌ مستغرب جداً بالنسبة لدراسةٍ أكاديمية تم إجراؤها في جامعةٍ ممولة حكومياً، إذ يتم إجراء مثل هكذا حملات بالنسبة للجامعات الخاصة التي تستهدف جلب الاستثمارات. 

على ضوء المعطيات السابقة، وعلى ضوء التسرع الكبير في الإعلان عن النتائج الأولية للدراسة وغياب أي تفاصيل تقنية وسريرية توثق الإجراءات المتبعة ضمنها وكيفية التوصل للنتائج، لا يزال المجتمع العلمي في ألمانيا بحالة شك كبير تجاه البحث الذي تم إجراؤه، كما أن البعض ذهب بعيداً لحد اتهام استغلال الدراسة لأغراض سياسية من قبل حكومة ولاية شمال الراين وستفاليا، إذ عبر سابقاً مسؤولون في حكومة الولاية عن رغبتهم في تخفيف القيود الصحية قريباً بهدف إعادة تنشيط اقتصاد أغنى الولايات الألمانية. 

من جانبه دافع هندريك شتريك عن الدراسة ونتائجها، وأكد عبر أكثر من منبر صحفيّ وإعلاميّ أن وظيفتهم تلخصت في جمع البيانات وتقديمها لتوفير صورةٍ واضحة عن حال انتشار الفيروس والمناعة التي تشكلت ضده. يعتبر أيضاً شتريك أن البيانات التي تم الكشف عنها صالحة إحصائياً ويمكن استخدامها لتعميم النتائج على مستوى ألمانيا.