هل سيتمكن العلم أخيراً من صنع كوب جيد من القهوة منزوعة الكافيين؟

7 دقائق
هل سيتمكن العلم أخيراً من صنع كوب جيد من القهوة منزوعة الكافيين؟
حقوق الصورة: Emre/Unsplash
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

من يهمه أمر القهوة منزوعة الكافيين؟ أنا. فاستقلاب الكافيين عندي ضعيف، شأني شأن الملايين من الناس. فنحن الذين نحمل نوعاً معيناً من الجين CYP1A2 قد نجد لذة كبيرة في ارتشاف كوب أحادي الأصل ومضغوط بشكل مثالي من بن أرابيكا، ولكننا لا نستطيع أن نشرب كوباً يحتوي على كامل كمية الكافيين دون أن يتراكم لدينا بسرعة كبيرة، ما يجعل قلوبنا تضرب بسرعة طبول فرقة موسيقية، ويُدخل أدمغتنا في دوامة سريعة من الشعور بالدوار والذهول.

وفي الحفلات، نضطر إلى ترك نصف كوب كامل من القهوة الباردة حتى يُرمى لاحقاً في المهملات. وفي المقاهي، نعلن بصوت عالٍ أننا نريد قهوة “نصف كافيين أو خالية من الكافيين”، لأنها يمكن أن تؤثر على يومنا بالكامل. ويتألم صانعو القهوة لمجرد التفكير في القهوة المطحونة المجردة من معظم ما تحويه من الكافيين وهي تمر عبر مصافيهم الثمينة، والمعتادة على القهوة العادية بكامل تركيز الكافيين. وينتهي المطاف بالكثير منا بالاستسلام وشرب الشاي. تدرك النساء الحوامل معاناتنا. ولكن، نحن معشر المختلفين استقلابياً، أصبح لدينا فرصة الآن. فمن المحتمل أن نشهد ظهور نوع جديد بالكامل من القهوة.

اقرأ أيضاً: هل سيكون هناك مساواة في مجال الصحة العالمية مع دواء ثمنه ملايين الدولارات؟

القهوة الأوجينية المهددة بالانقراض

ففي البطولة العالمية لصانعي القهوة لعام 2022 في ميلبورن، قامت مورغان إكروث من شركة أونيكس (Onyx) للقهوة بتكويم تلة من القهوة المطحونة في طاحونة ضخمة، فيما كانت تقوم بإعداد جرعة من الإسبريسو. وأضافت طوقاً حول القهوة المطحونة، وقامت بخلطها للحصول على قوام خفيف بأداة صغيرة مرنة، وضغطتها بأداة ضاغطة صغيرة. وكان الحكام يشاهدون.

“سنبدأ وقتنا اليوم مع قهوة كادت تواجه الانقراض: وهي القهوة الأوجينية”، كما قالت مستخدمة ميكروفوناً معلقاً قرب وجهها. وأكملت حديثها شارحة أن نبتة البن الأوجيني، وهي تمثل السلف الجيني لنبتة بن أرابيكا، كادت أن تتعرض للانقراض حتى فترة قريبة. أما أرابيكا فهي القهوة سميكة القوام التي تتميز بنكهة أرضية ترابية شبيهة بالشوكولاتة، وهو مذاق يستلذ به معظم سكان العالم. ولكن القهوة الأوجينية مختلفة بعض الشيء، فهي قوية المذاق أيضاً، ولكنها تحمل نكهات ثمار الحمضيات وحلويات المارشميلو. أما الناحية الأكثر أهمية: فهي أن القهوة الأوجينية تحمل نصف كمية الكافيين.

وعلى الرغم من أن القهوة الأوجينية ساعدت إكروث على الفوز بالمرتبة الثانية، فمن غير المرجح أن نستمتع نحن البشر بمستواها المنخفض من الكافيين على نحو مثير للإعجاب. فزراعتها صعبة. وحتى في التربة الغنية لمزارع إينماكولادا (Inmaculada) في كولومبيا، حيث تمت زراعة القهوة التي استخدمتها إكروث، ما زالت زراعتها صعبة. ولكن القهوة الأوجينية قد تفتح لنا مساراً آخر نحو قهوة نستطيع جميعاً تحضيرها بسرعة والاستمتاع بشربها. فالقهوة الأوجينية تقدم للعلماء العديد من الأدلة حول كيفية صنع قهوة أرابيكا بتركيبة أكثر سهولة للاستقلاب، وتعديل طريقة صنعها للكافيين، وصنع نبتة منزوعة الكافيين جزئياً أو كلياً في المختبر، مع الحفاظ على النكهة الكاملة للقهوة الطبيعية.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن تصاب بكوفيد طويل الأمد رغم تلقي اللقاح؟

استيلاد نباتات أكثر إنتاجية

ففي جامعة ومركز أبحاث فاخينينغن في هولندا، يعمل يان شارت وزملاؤه على استيلاد الجيل الجديد من نباتات القمح والبطاطا. ومع الأدوات الجديدة للتعديل الجيني، يعملون على دراسة الصفات الاستقلابية للنباتات، ويبحثون عن أساليب لجعلها أكثر إنتاجية وأفضل للصحة. وهي مهمة تعمل الكثير من شركات الطعام والمشروبات على تنفيذها بالتوازي. وفي 2021، ركز شارت وأحد طلابه، نيلز ليبروك، اهتمامهما على القهوة، واستخدام نظام كريسبر (CRISPR) لتثبيط مسار صناعة الكافيين في قهوة أرابيكا. يقول شارت: “عندما نستخدم الجينات، يبدو الأمر سهلاً للغاية”. “وستصبح القهوة ألذ مذاقاً بكثير، لأننا لن نعود في حاجة إلى عملية كيميائية للتخلص من الكافيين في حبوب القهوة”.

لقد كان الباحثون يحاولون تحقيق هذا باستخدام تكنولوجيات قديمة منذ عقود. ففي 1992، استخدم مختص بالجينات في جامعة هاواي في هونولولو التكنولوجيا المضادة للدلالة لإقحام جين يقوم بتثبيط أحد الأنزيمات في مسار صنع الكافيين. لقد كانت عملية مجهدة. وما إن تم نقل الشتلات إلى مزرعة، ارتفع مستوى الكافيين في النبتة. وفي 2003، قام علماء في معهد نارا للعلوم والتكنولوجيا في اليابان باستخدام تكنولوجيا تداخل الحمض النووي الريبي (RNAi) في محاولة لتعديل مسار صنع الكافيين بطريقة مختلفة. ولكن النبتة الناتجة لم تنبت بشكل جيد أيضاً، فقد أدى الأنزيم المنزوع إلى نتائج سلبية غير متوقعة.

أما من ناحية المزارعين، فقد كانت مزارع القهوة تحاول استنبات نباتات قهوة قليلة الكافيين منذ فترة طويلة أيضاً. ففي التسعينيات، تمكنت شركة إيلي كافي (Illy Caffe) من زراعة وتحميص قهوة منخفضة الكافيين تحمل اسم قهوة لورينا، وهي قهوة بتركيز معتدل ومذاق شبه حلو. ولكن كان ثمة مشكلة. فالكافيين الموجود في أوراق النبتة يقوم بدور مبيد حشري طبيعي، حيث يبعد الحشرات، ويحميها من الأمراض الناجمة عنها. وبالتالي، فإن انخفاض نسبة الكافيين في قهوة لورينا وفي القهوة الأوجينية يعني أن الأوراق ستصبح عرضة لهجوم الحشرات.

ولهذا، وربما بسبب مشاكل زراعية أخرى، فإن إنتاجية نباتات القهوة تلك ضعيفة، وتكفي بالكاد لإصدار محدود واحد (أو بطولة عالمية في صنع القهوة). وحالياً، يمكن شراء لورينا على موقع ويب واحد لمزرعة دوكا إستيتس في كوستا ريكا.

اقرأ أيضاً: إلى أي حد كانت هناك نقاط مشتركة بين المخاوف التي أثارها فيلم جاتاكا وواقع الهندسة الوراثية؟

في 2004، أعلن علماء برازيليون عن حل مشكلة القهوة منزوعة الكافيين، فقد اكتشفوا نبتة قهوة أرابيكا منزوعة الكافيين بشكل طبيعي. وتم توزيع البذور على المزارع في كافة أنحاء العالم. ولكننا لم نسمع أي أخبار أخرى عن هذه القهوة منذ ذلك الحين.

التعديل الجيني لنبات القهوة

إن القهوة رفيق صعب المزاج. ويبدو أن الوسيلة الوحيدة الممكنة للالتفاف حول معضلة الكافيين (توجد طريقة أخرى، وهي التقليل من شرب القهوة، ولكن من سيرغب بهذا؟) هي إيجاد وسيلة لتقليل الكافيين في حبوب القهوة دون التأثير على الأوراق. (المياه السويسرية ليست حلاً للمشكلة، وسنتحدث عنها لاحقاً)

يقول شارت: “نعتقد أن حل المشكلة يكمن في معالجة النبتة بحيث يتواصل إنتاج الكافيين في الأوراق، ولكن ليس في الحبوب”. ومن الممكن باستخدام آليات كريسبر، إضافة إلى مقدار كبير من المعلومات العامة حول جينوم القهوة، أن نتمكن من تحقيق هذا الأمر، أو نضع خطة لهذا على الأقل.  ففي نبتة القهوة، توجد المئات من البروتينات المسماة بعوامل النسخ، والتي تساعد على تفعيل جين الكافيين. وفي الأوراق، تستخدم النبتة تركيبة معينة من هذه البروتينات، ويُفترض بأنها تستخدم تركيبة مختلفة في الحبوب. وتعتمد خطة شارت وليبروك على أدوات كريسبر لمنع عوامل النسخ الخاصة بالحبوب من التفاعل مع جين الكافيين. وسيبدآن العمل فور الحصول على التمويل.

ولكن من المحتمل أن القطاع الخاص سبقهما. فشركة تروبيك بايوساينسز (Tropic Biosciences)، والتي مقرها في المملكة المتحدة، بدأت على ما يبدو باستخدام تكنولوجيا كريسبر لنزع الكافيين من القهوة بالتعديل الجيني. وببحث سريع على محرك جوجل (Google)، نكتشف أن الشركة قدمت طلباً للحصول على براءة اختراع في 2019 في الولايات المتحدة واليابان والصين وأستراليا وغيرها من البلدان، مع توصيف لطريقة مختلفة بعض الشيء عن طريقة شارت وليبروك. ومن المرجح أن بعض الشركات الأخرى تقوم بنفس العمل.

إضافة إلى هذا، فإن المركز الزراعي البحثي الفرنسي للتنمية العالمية يدرس إمكانية استخدام كريسبر للحصول على نبتة قهوة منزوعة الكافيين، إضافة إلى عدة مراكز بحثية إندونيسية. إذن، متى يمكن أن نرى قهوة أرابيكا قليلة الكافيين ومنزوعة الكافيين، مع كل نكهات القهوة الأصلية؟ ربما لن ننتظر طويلاً.

كم فكرنا، وبمنتهى الشاعرية، في ارتشاف كوب قهوة لاتيه كاملة التركيز في جلسة واحدة، من البداية إلى النهاية، دون ارتجاف (ومن دون دفع ثمن باهظ). بطبيعة الحال، لم يتمكن أحد بعد من استنبات نبتة قهوة ناضجة معدلة بتقنية كريسبر (أو لم يعلن عن ذلك على الأقل، إذا تمكن فعلاً). ولكن الأهم من هذا هو أنه لا أحد يعرف ما إذا كان المستهلكون مستعدين لتقبل قهوة معدلة جينياً. غير أن شارت يشعر بالتفاؤل. ويقول: “أحب أن أعتبر أن هذا العمل مستوحى من الطبيعة”.

ولكن، ومن ناحية أخرى، فإن الأغذية المعدلة جينياً ما زالت شعبيتها منخفضة في أوروبا. أما في آسيا والأميركتين فهي تحظى بدرجة أعلى بقليل من القبول الاجتماعي، ولكن بعض المستهلكين ما زالوا ينظرون إليها بريبة، خصوصاً فيما يتعلق بسلامتهم. وحتى لو كنا نحن معشر ذوي الاستقلاب البطيء ننظر إلى هذه القهوة منخفضة الكافيين كهبة سماوية، فقد يتطلب تغيير الرأي العام إزاءها بعض الوقت.

اقرأ أيضاً: السرطانات المُعدية لدى الحيوانات تشكّل إنذاراً للبشر

تقنية المياه السويسرية

وفي الوقت الحالي، ما زالت هناك طريقة واحدة لصنع القهوة منزوعة الكافيين للعامة، وهي جني حبوب القهوة كاملة الكافيين وتعريضها إلى محلول كاوٍ أو حارق، ما يؤدي إلى إزالة المئات من الجزيئات المحملة بالنكهة مع الكافيين. والآن، يأتي دور المياه السويسرية. فشركات تحميص القهوة مثل إنتيليجينتسيا (Intelligentsia) وفولكانيكا (Volcanica) تولي القهوة منزوعة الكافيين اهتماماً أكبر هذه الفترة، فقد أتقنت تقنية المياه السويسرية، وهي طريقة سويسرية الأصل وذائعة الصيت تعتمد على المياه الساخنة والمواد الصلبة القابلة للانحلال في الماء، والموجودة على حبوب القهوة نفسها، وذلك لامتصاص الكافيين، كما أن هذه الشركات ابتكرت طرقاً جديدة، مثل النقع في أسيتات الإيثيل. وتتميز قهوة فولكانيكا منزوعة الكافيين بمذاق جيد.

أما قهوتي المفضلة منزوعة الكافيين في السوق فهي من إنتاج كاونتر كولتشر (Counter Culture)، وهي قهوة منزوعة الكافيين بطريقة المياه السويسرية، وتحمل اسماً مناسباً لهذه الطريقة: سلو موشن أو “الحركة البطيئة” (Slow Motion) إنها قهوة جيدة. ولكن ليس إلى حد وصفها بالرائعة. وأرغب في تذوقها بعد شرب كوب من قهوة لا مارزوكو (La Marzocco) بقيمة 10,000 دولار في المقهى المحلي الذي أتردد عليه. ربما يوماً ما.

وفي غرب لوس أنجلوس، تقوم شركة كافيه لوكس (Cafe Luxxe) بتحميص قهوة منزوعة الكافيين بجودة عالية للغاية، وبتقييم 91 على موقع كوفي ريفيو (Coffee Review). إنها سلسة المذاق. ولكن زوجي يعتبرها عديمة النكهة. وعندما أقوم بإعدادها في المنزل، أقوم بزيادة تركيزها باستخدام كمية زائدة من البن المطحون بمقدار 1.5 ضعف. وعلى الرغم من هذا، فإنه يرفض شربها.

اقرا أيضاً: العالم ليس على استعداد للتعامل مع الرياضيين الخاضعين للتعديل الجيني

وبالطبع، وبما أنني أعيش في كاليفورنيا، فلا بد أن أسمع بشركة ناشئة جديدة في الساحل الغربي وتركز على إزالة الكافيين من القهوة بعد استخلاصها أو صبها. تحمل الشركة اسم ديكافينو (Decafino)، وقد أسسها أندي ليو، وهي تصنع منتجاً شبيهاً بأكياس الشاي ويستطيع إزالة الكافيين بنسبة 80% من أي كوب قهوة بسعة 16 أوقية سائلة (ما يعادل كوباً بحجم 450 مللي لتر) خلال أربع دقائق. يحتوي الكيس على حبيبات صغيرة مصنوعة من الطحالب مع مسامات تجتذب جزيئات الكافيين حصرياً وتلتصق بها، كما تقول الشركة، وتترك جميع جزيئات النكهة الأخرى دون تأثير.

وقد أعلنت الشركة عن بدء تلقي طلبات البيع المسبق على موقع الويب الخاص بها. ومع أنني لا أستطيع أن أتخيل تغميس شيء في كوب من الكابوتشينو المحضر بشكل مثالي، ومراقبته وهو يفقد النكهة والحرارة أثناء نزع الكافيين منه، فسوف أجرب هذه الطريقة على أي حال. وفي هذه الأثناء، سأواصل طلب القهوة بنصف تركيز الكافيين، وتحمّل نظرات الضيق الدائمة من صانعي القهوة.

مؤخراً، وفي الطريق نحو المتنزه المحلي، رأيت مقهى بلو بوتل كوفي (Blue Bottle Coffee) المختص بالقهوة، حيث يتدرب صانع القهوة لشهر كامل قبل أن يقوم باستخلاص أول جرعة من القهوة. وتذوقت قهوة هذا المقهى. وكنت أعرف أن قهوته مختارة ومصنوعة بعناية، وفي لحظة من النعاس والتراخي، شعرت بالقهوة تناديني. دخلت إلى المقهى، وطلبت قهوتي المعتادة: كابوتشينو بنصف الكافيين، وابتسمت وأنا أتخيل هذا السائل الدافئ الرائع يداعب شفتي. وقال لي صانع القهوة: “يجب أن أحذرك: فقهوتنا منزوعة الكافيين مذاقها مر”. وشعرت بانكماش مفاجئ أعادني إلى الواقع. وقلت له: “لا بأس” “فأنا معتادة عليها”.