هل ستعالج تقنية كريسبر أمراضاً كالمهق قريباً؟

5 دقائق
ما التغييرات التي ستُحدثها تقنية كريسبر في حياتنا؟
ستيفاني آرنيت/ إم آي تي تي آر/ إنفاتو
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لننسَ جيانكوي؛ العالم الصيني الذي تَسبَّب بإنجاب أطفال معدَّلين جينياً. وبدلاً من ذلك، وعند التفكير بالتعديل الجيني، يجب أن تفكر في فيكتوريا غراي؛ المرأة الأميركية من أصل إفريقي التي تقول إنها شُفيت من أعراض فقر الدم المنجلي، 

فقد اجتمع العلماء مؤخراً في لندن لحضور القمة الدولية الثالثة حول تعديل الجينوم البشري. إنه حدث كبير في مجال التعديل الجيني؛ حيث يدهش الباحثون الحضور بقدراتهم الجديدة على تعديل الحمض النووي، ويُصاب الأخلاقيون بالقلق إزاء نتائج هذه التجارب. 

بدأ الحدث بإلقاء بنظرة على ما أطلقت عليه المجلات “إساءة الاستخدام” لهذه التكنولوجيا للحصول على أطفال بصفات جينية جيدة في الصين، وقد كانت هذه التجربة فضيحة أخلاقية كما أثارت عدة أسئلة جوهرية حول تدخّلنا في عملية التطور.

ولكن نقاش التعديل الجيني للأطفال ليس سوى عامل تشتيت يصرف انتباهنا عن التغييرات التي يُحدثها التعديل الجيني في حياة البشر، وذلك عن طريق العلاجات المطبَّقة على البالغين المصابين بأمراض خطِرة

وفي الواقع، يُجرى أكثر من 50 دراسة تجريبية لاستخدام التعديل الجيني على متطوعين بشر لعلاج العديد من الأمراض، بدءاً من السرطان، وصولاً إلى مرض نقص المناعة البشري (الأيدز) وأمراض الدم، وذلك وفقاً لحصيلة شاركها مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو، اختصاصي التعديل الجيني ديفيد ليو من جامعة هارفارد. 

ويتضمن معظم هذه الدراسات -40 دراسة تقريباً- استخدام تقنية كريسبر (CRISPR)؛ وهي طريقة التعديل الجيني الأكثر تنوعاً من حيث الإمكانات والتي طُوِّرت منذ 10 سنوات فقط. 

اقرأ أيضاً: هل تكون الخطوة التالية لتقنية كريسبر هي تعديل الجينات للعموم؟

وهنا يأتي دور غراي، فهي إحدى أوائل المرضى الذين عولجوا عن طريق إجراء يعتمد على تقنية كريسبر، وذلك عام 2019، وقد تسببت قصتها ببكاء الحضور في لندن. 

وتحدثت غراي عن معركتها مع المرض الذي يتسبب بتشويه خلايا الدم وعجزها عن حمل ما يكفي من الأوكسجين؛ ما يؤدي إلى آلام حادة بالإضافة إلى فقر الدم، وقالت: “أقف أمامكم اليوم دليلاً حياً على إمكانية حدوث المعجزات”!

ولكن حالة غراي تبين أيضاً المعضلات التي تواجه الجيل الأول من علاجات كريسبر الذي يُشار إليه أحيانا باسم “كريسبر 1.0″؛ إذ سوف تكون هذه العلاجات مكلفة للغاية كما أن تطبيقها سيكون بالغ التعقيد، ومن المحتمل أن يتجاوزها الجيل الجديد من أدوية التعديل الجيني المحسنة بسرعة.

تقول الشركة التي تطور علاج غراي، فيرتيكس فاراماسوتيكالز (Vertex Pharmaceuticals)، إنها عالجت أكثر من 75 شخصاً خلال دراساتها لفقر الدم المنجلي، ومرض آخر هو البيتا تلاسيميا، وأن العلاج قد يحوز على الموافقة للبيع في الولايات المتحدة خلال سنة، ومن المتوقَّع على نطاق واسع أن يكون أول علاجات كريسبر المباعة للعامة. 

لم تفصح فيرتيكس عن تكلفة الدواء؛ ولكن من المتوقَّع أن يصل إلى عدة ملايين!

اقرأ أيضاً: تقدم واعد في تقنية كريسبر يمهد الطريق لتطوير علاجات فردية مخصصة

نجاح غير مسبوق

يقول الباحثون إن مسيرة هذه التكنولوجيا نحو الاستخدام في الطب كانت سريعة بصورة لافتة. ويقول الباحث في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، فيودور أورنوف (Fyodor Urnov): “أعتقد أن كريسبر تفوقت في سرعة تطورها على تكنولوجيات العلاج الجيني السابقة جميعها”.

وبالنسبة إلى العلماء، تمثل كريسبر فتحاً جديداً بسبب قدرتها على قص الجينوم في أماكن محددة، وتعتمد على بروتين للقص مع سلسلة جينية قصيرة تقوم بدور نظام تحديد الموقع (GPS)؛ بحيث تنقله إلى مكان محدد مسبقاً ضمن كروموسومات المريض. 

إضافة إلى ذلك، فمن الممكن بسهولةٍ نسبيّة تغيير هذه السلسلة المستخدمة لتحديد الموقع؛ كما تقول اختصاصية الكيمياء البيولوجية في بيركلي، جينيفر دودنا (Jennifer Doudna) التي كانت من الحائزين على جائزة نوبل لابتكار هذه الطريقة. ​وذكّرت الحضور في القمة قائلة: “تقوم تكنولوجيا كريسبر بإحداث تغييرات مبرمجة في الحمض النووي”. 

اقرأ أيضاً: إحدى مطوّري تقنية كريسبر تدعو إلى فرض ضوابط على تقنية تحرير الجينات

وإضافة إلى فيرتيكس، تأمل مجموعة من شركات التكنولوجيا الحيوية؛ مثل إنتيليا (Intellia) وبيم ثيرابيوتيكس (Beam Therapeutics) وإيديتاس ميديسين (Editas Medicine)، باستخدام هذه التكنولوجيا لتطوير علاجات ناجحة. ويقوم الكثير من هذه الشركات بإجراء التجارب الموجودة على قائمة ليو؛ ولكن النجاح لن يكون حليف هذه التجارب جميعها.

فيكتوريا غراي تتحدث على منصة القمة الدولية الثالثة لتعديل الجينوم البشري في 2023
فيكتوريا غراي تصف معركتها مع مرض فقر الدم المنجلي لقمة من خبراء التعديل الجيني، وقد تمكنت من علاج أعراض المرض بعد أن تلقت علاجاً بتقنية كريسبر عام 2019. مصدر الصورة: لويس مونتوليو

وعلى سبيل المثال، وفي يناير/ كانون الثاني، اضطرت شركة التكنولوجيا الحيوية غرافيت بايو (Graphite Bio) في سان فرانسيسكو إلى إيقاف اختباراتها لعلاجها الخاص لمرض فقر الدم المنجلي بالتعديل الجيني، بعد أن انخفض تعداد خلايا الدم لمريضها الأول إلى مستويات خطِرة، وقد كانت هذه المشكلة ناجمة عن العلاج نفسه. وبعد ذلك، تهاوت قيمة أسهم غرافيت بنسبة أكثر من 90%، وبات مستقبلها الآن غير مضمون.

وحتى الآن، فإن المشكلة الأكبر التي يجب حلها في هذه العلاجات كلها هي إيصال كريسبر إلى المكان المطلوب في الجسم، وهو ليس بالأمر السهل. ففي حالة غراي، أزال الأطباء بعض الخلايا من نخاع العظم، وقاموا بتعديلها في المختبر. ولكن، وقبل إعادة الخلايا إلى جسمها، خضعت إلى علاج كيميائي قاسٍ للغاية لقتل ما تبقّى من نخاع العظم في جسمها، لإفساح المجال أمام الخلايا الجديدة.

اقرأ أيضاً: تجارب جينية خطيرة لإطالة عمر الإنسان بمدينة من نوع خاص

وبشكل أساسي، يحتاج علاج فيرتيكس إلى عملية زرع لنخاع العظم، وهي عملية مضنية بحد ذاتها كما أنها غير ممكنة مع المرضى كلهم. وتعتقد فيرتيكس أن العلاج سيكون مناسباً للحالات “الشديدة”؛ وهي سوق تتضمن 32,000 شخص في أوروبا والولايات المتحدة وفق تقديراتها!

وحتى في هذه الحالات، لن يتلقى المريض العلاج إذا تمنعت الحكومة وشركات التأمين عن الدفع. إنها مخاطرة حقيقية. وعلى سبيل المثال، فقد سُحب علاج جيني مختلف لمرض البيتا تلاسيميا طوّرته شركة بلوبيرد بايو (Bluebird Bio)، من السوق الأوروبية بعد أن رفضت الحكومات هناك دفع ثمنه البالغ 1.8 مليون دولار.  

كريسبر 2.0

يتسم الجيل الأول من علاجات كريسبر بأنه محدود من ناحية أخرى أيضاً، فمعظم العلاجات يستخدم هذه الأداة لإتلاف الحمض النووي؛ ما يعني إيقاف عمل الجينات عملياً، وهي عملية معروفة باسم “تخريب الجينوم” وفقاً لتسمية عالم البيولوجيا من جامعة هارفارد، جورج تشورتش (George Church).

وتتضمن العلاجات التي تحاول تفكيك الجينات علاجاً مصمماً للقضاء على مرض الأيدز؛ كما أن العلاج الذي حصلت عليه غراي ينتمي إلى هذه المجموعة. وبتفكيك جزء محدد من الحمض النووي، يؤدي علاجها إلى إطلاق نسخة ثانية من جين الهيموغلوبين؛ وهي نسخة عادة ما تكون فعالة لدى الأطفال فقط. وبما أن الهيموغلوبين هو البروتين الفاسد في الخلايا المنجلية، فإن تفعيل نسخة أخرى كفيل بحل المشكلة.

ووفقاً لتحليل ليو، فإن ثلثيّ الدراسات الحالية يهدفان إلى “تعطيل” الجينات بهذه الطريقة.

يعمل مختبر ليو على مقاربات لتعديل الجينات من الجيل الجديد، وتعتمد هذه الأدوات أيضاً على بروتين كريسبر ولكنه ليس مصمماً لقص لولب الحمض النووي؛ بل لاستبدال الأحرف الجينية الإفرادية بدقة أو إجراء تعديلات أكبر، وهذه العلاجات معروفة باسم “تعديلات الأسس”.

ووفقاً لعالم الجينات في المركز الوطني الإسباني للتكنولوجيا الحيوية، لويس مونتوليو (Lluís Montoliu) فإن هذه النسخ الجديدة من كريسبر تتسم “بمستوىً أقل من المخاطرة، وأداء أفضل”، على الرغم من أن إيصالها “إلى الخلايا المستهدفة الصحيحة في الجسم” ما زال مسألة معقدة. 

ويعمل مونتوليو في مختبره على استخدام تعديلات الأسس لشفاء الفئران من المَهَق (البَرَص أو انعدام لون الجلد)، ومنذ الولادة في بعض الحالات. ويقول إنها خطوة نحو علاج يمكن تقديمه إلى المواليد الجدد من البشر؛ ولكن ليس لتغيير لون البشرة. وبدلاً من ذلك، فهو يحلم بوضع جزيئات ليو في أعينهم لتصحيح المشكلات البصرية الشديدة التي يمكن أن يتسبب بها المهق. 

ولكن، وحتى الآن، ما زال مشروع المهق بعيداً عن الاستثمار التجاري، وهو ما يشير إلى أحد أكبر العوائق التي تحد من تأثير كريسبر في الوقت الحالي والمستقبل القريب، فتجارب كريسبر الحالية جميعها تقريباً تهدف إلى علاج السرطان أو فقر الدم المنجلي، مع وجود عدة شركات تعمل على حل المشكلات ذاتها.

اقرأ أيضاً: هواة التعديل البيولوجي يتجاهلون التحذير من تطبيق العلاج الجيني بشكل ذاتي

ووفقاً لأورنوف؛ يعني هذا تجاهل الآلاف من الأمراض الوراثية الأخرى التي يمكن علاجها أيضاً باستخدام كريسبر. ويقول: “يُعزى هذا بشكل شبه كامل إلى أن معظم هذه الأمراض نادر للغاية لدرجة أنها لا تمثل فرصة تجارية جيدة”.  

ولكن، وفي لقاء لندن، قدم أورنوف أفكاره حول كيفية اختبار العلاجات حتى للأمراض فائقة الندرة، بما فيها بعض الأمراض الجينية التي تصل ندرتها إلى درجة التأثير في شخص واحد فحسب.  إنها ليست فرصة تجارية؛ ولكن بما أنه يمكن برمجة كريسبر للتأثير في أي موضع في الجينوم، فهو أمر ممكن علمياً. والآن، وبعد أن حقق التعديل الجيني نجاحاته الأولى كما يقول أورنوف، ثمة “حاجة ملحة” لفتح “المجال أمام الجميع للتوجه إلى العيادات”.