تعرف على حيل مروجي الدعاية التي يستغلون بها الحقائق العلمية لتحقيق أغراضهم

7 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في الخمسينيات من القرن العشرين، كان العاملون في ميدان الصحة قلقين جداً من تسبب عادة التدخين في الإصابة بالسرطان. وفي العام 1952 نشرت المجلة الشعبية “ريدرز دايجست” مقالاً بعنوان “السرطان المطلّ من علب السجائر” (Cancer by the Carton)، يحكي فيه الكاتب عن تنامي الأدلة العلمية التي تثبت تسبب التدخين في الإصابة بالسرطان. وقد أحدث هذا المقال تأثيراً هائلاً واسع النطاق، وحظي بتغطية إعلامية كبيرة جداً. أما اليوم، فما من شك في المخاطر الصحية التي يتسبب فيها التدخين، فقد أصبحت واضحة لا يكتفنها أي غموض.

ومع ذلك فالقوانين التي تحظر التدخين تتلكأ ببطء في الانتشار ويواجه اعتمادها عراقيل جمة، حيث ظهر معظمها بعد حوالي أربعين سنة أو أكثر من نشر هذا المقال سالف الذكر.

ويعود سبب هذا التأخر في تطبيق وتشريع قوانين حظر التدخين إلى قِصَر البصيرة، وإلى العديد من الأسباب التي فصَّل فيها الكاتبان نعومي أورسيكس وإيرك كونواي في كتابهما “بائعو الشك” (Merchants of Doubt). حيث شرح المؤلفان في متن الكتاب كيف وظَّفت إحدى شركات صناعة التبغ شركة علاقات عامة لخلق حالة من الشكوك والجدل حول الدليل العلمي المثبت لتسبب التدخين في السرطان وإحاطة هذه الحقائق العلمية بالهواجس والارتياب.

ولتحقيق هذا الغرض، قامت شركة التبغ وشركة العلاقات العامة معاً بتأسيس وتمويل منظمة اسمها “لجنة أبحاث قطاع صناعة التبغ”، هدفها هو إنتاج دراسات وبحوث وآراء تعارض وتفند الرأي العلمي القائل بأن التدخين عادة مضرة بالصحة وتؤدي إلى الموت. وهذا ما أدى إلى بث شعور مزيف من الشك وعدم اليقين، تسبب في عرقلة القوانين والسياسات التي كان من الممكن -لولا حالة التعارض هذه- أن تكون قد فرضت حظر التدخين منذ زمن، أو وضعت شروطاً أشد على مبيعات السجائر.

أما بالنسبة للشركات العاملة في صناعة التبغ، فقد كانت هذه المنهجية في الدعاية ناجحة جداً في وقتها. ففي ذات الكتاب، يظهر لنا المؤلفان أورسيكس وكونواي كيف أن موضوع تغير المناخ عانى أيضاً من حالة مماثلة من عدم اليقين العلميّ، انتهجت فيها الشركات التي ستتضرر من قوانين الاستدامة نفس منهجية شركات صناعة التبغ. وبالمثل هناك إجماع علمي بشأن حقيقة تغير المناخ، إلا أن هذه الشركات قامت عن عمد بتضليل الرأي العام وبث شعور عدم اليقين بين صفوفه بشأن هذا الموضوع. والأكثر من ذلك أن أورسيكس وكونواي يقولان بأن بعض هؤلاء الأشخاص -الذين وضعوا إستراتيجية حماية صناعة التبغ- عملوا أيضاً على تقويض اليقين العلمي بشأن التغير المناخي في الرأي العام وبث الشكوك حوله.

وهذا ما يثير سؤالاً مهماً علينا الإجابة عليه، هو: إلى أي مدى يسهل على الشركات الشريرة تضليل الرأي العام بشأن الحقائق العلمية؟

ولحسن الحظ، لدينا اليوم إجابة بفضل عمل جيمس أوين ويذرول، وكايلين أوكونور من جامعة كاليفورنيا في إيرفين، وجاستين برونر من الجامعة الوطنية الأسترالية في كانبيرا، الذين طوروا معاً نموذجاً حاسوبياً يبين كيف يتكون الإجماع العلمي حول إحدى الحقائق، وكيف يؤثر هذا على آراء صناع القرار والسياسيين. وضمن دراستهم، تفحص فريق البحث كيف أن من السهل تشويه هذه الآراء، واكتشفوا أنه في أيامنا هذه من السهل فعلاً تشويه الرأي العام بشأن الحقائق العلمية بطرق تقنية أكثر مكراً وخبثاً من المنهجية التي اتبعتها شركات صناعة التبغ فيما سبق.

وتضمنت الإستراتيجية الأصلية التي اتبعتها شركات صناعة التبغ عدة خطوط هجومية. يتمثل أحدها في تمويل البحوث العلمية التي تؤيد وجهة نظر القطاع، ومن ثم نشر البحوث العلمية التي توافق فقط توجهه وتفيد مصالحه ورسالته التجارية. “وعلى سبيل المثال، وزَّع مركز الموارد الدولية بترالي كتيِّباً -عنوانه: “نظرة علمية على الجدل الدائر حول ضرر السجائر”- على ما يقرب من 200,000 طبيب وصحفي ومشتغل بالسياسة وعامل في دوائر صنع القرار، أبرزوا فيه البحوث العلمية التي توافق رأيهم وشككوا في نتائج البحوث العلمية المخالفة لهم”، وذلك كما كتب ويذرول وزملاؤه، حيث سموا هذه المنهجية بـ”الإنتاج المتحيز للبحوث العلمية”.

أما الخط الآخر في هذه الإستراتيجية فيتمثل في دعم البحوث المستقلة التي صدف وأن كانت نتائجها العلمية داعمة لوجهة نظر الشركات العاملة في القطاع ومصالحها التجارية. وعلى سبيل المثال، قامت شركات صناعة التبغ بدعم البحوث التي تربط بين الإصابة بسرطان الرئة والحرير الصخري (مادة الأسبستوس)؛ لأن هذه البحوث من شأنها تشويش الرأي العام بإبراز العوامل الأخرى المسببة للسرطان. ويسمي ويذرول وزملاؤه هذه المنهجية بـ”المشاركة الانتقائية” للمعلومات.

وفي عملهم البحثي، قام ويذرول وزملاؤه بتفحص هذه التقنيات المتبعة وكيفية تأثيرها على الرأي العام. وللقيام بذلك طوَّروا نموذجاً حوسبياً يبين الطريقة التي تؤثر بها الحقائق العلمية على آراء صناع القرار أولاً.

ويحتوي هذا النموذج على ثلاثة أنواع من العناصر الفاعلة. يتمثل أولها في مجموعة العلماء الذين توصَّلوا إلى إجماع علمي بشأن موضوع ما، من خلال إجراء التجارب ومراجعة تجارب أقرانهم، والسماح للنتائج المخرجة بالتأثير على آرائهم.

وفي هذا النموذج، يشرع كل عالم بالاختيار بين نظريتين وانتقاء الأفضل بينهما بالنسبة له. وتستند إحدى هذه النظريات على ما يسمى “الإجراء A”، الذي يكون مفهوماً جيداً من ناحية علمية ويعرف على أنه مُجْدٍ بنسبة 50%. ويرتبط هذا الإجراء بالنظرية A.

ومن الناحية الأخرى، تستند النظرية B على إجراء غامض غير مفهوم بشكل كامل. ومع أن العلماء غير متيقنين من كون هذه النظرية أفضل حتماً من النظرية A، إلا أن النموذج الحوسبي يمنح دائماً النظرية B الأفضلية.

ويُجري العلماء تجاربهم ويسجلون ملاحظاتهم وفق النظرية التي اختاروها، لكن الأهم من ذلك أن هذه المُخرجات تنتج نسباً احتمالية واضحة، ولذلك -وحتى لو كانت النظرية B هي الأفضل- سنجد أن بعض النتائج تؤيد النظرية A.

وفي بداية تشغيل هذه المحاكاة، يُعطى العلماء إيماناً عشوائياً بإحدى النظريات، إما A أو B. وعلى سبيل المثال يعتقد العلماء ذوي نسبة المصداقية 0.7 بأن هناك احتمالاً قدره 70% أن النظرية B صحيحة، ومن ثم فإنهم سيطبقونها في جولتهم القادمة من التجارب.

وبعد كل جولة من التجارب، يقوم العلماء بتحديث آرائهم استناداً إلى نتائج تجاربهم والنتائج التي ظهرت للعلماء المرتبطين معهم في الشبكة المهنية. وفي الجولة التالية، يكررون هذه العملية ويحدثون آرائهم مرة أخرى، وهكذا دواليك.

وتتوقف المحاكاة عندما يعتقد جميع العلماء في واحدة من النظريتين، أو عندما يصل الإيمان بإحداها إلى مستوى معين. وعلى هذا النحو حاكى ويذرول وزملاؤه الطريقة التي يصل بها العلماء إلى إجماع علمي بشأن إحدى القضايا.

ولكن كيف تؤثر هذه العملية على صناع القرار والسياسيين؟ لمعرفة ذلك، أدرج ويذرول وزملاؤه في النموذج الحوسبي مجموعة أخرى من الأشخاص -صناع القرار- الذين يتأثرون بآراء العلماء (لكنهم لا يؤثرون في العلماء أنفسهم). وبطبيعة الحال، لا يستمع صانعو القرار والسياسيون إلى كل العلماء، بل إلى شريحة منهم فقط.

ويبدأ صناع القرار في هذه المحاكاة بوجهة نظر معينة يُحدِّثونها مع كل جولة، مستعينين بآراء العلماء الذين يستمعون إليهم.

إلا أن هذا غير كافٍ لأن بؤرة التركيز الأساسية لفريق البحث هي كيف يستطيع مروجو الدعاية التأثير على آراء صناع القرار، ولذلك أدخل ويذرول وزملاؤه مجموعة ثالثة من العناصر الفاعلة في هذا النموذج الحوسبي. وتقوم هذه المجموعة من مروجي الدعاية بمراقبة كافة العلماء والتواصل مع كافة صناع القرار، وذلك بهدف إقناعهم أن النظرية الأسوأ هي الأصح (وهي في حالتنا هذه النظرية A). وهم يقومون بذلك من خلال البحث فقط عن تلك الآراء التي تدعم النظرية A، ومن ثم يشاركونها مع صناع القرار.

وفي هذا السياق، يستطيع مروج الدعاية العمل وفق الطريقتين اللائي ذكرناهما آنفاً: الإنتاج المتحيز للبحوث العلمية، أو “المشاركة الانتقائية” للمعلومات. في المرحلة الأولى، يستخدم مرجو الدعاية فريقاً من العلماء الموظفين داخل الشركة المعنية لإنتاج بحوث علمية تؤيد النظرية A، وفي المرحلة الثانية يختار مروجو الدعاية ببساطة النتائج التي أسفرت عنها البحوث المستقلة (من العلماء الآخرين خارج الشركة) التي تؤيد -عرضاً- النظرية A.

وبهذا يكون من شأن كل من هذين الطريقتين إحداث أثر كبير، كما يقول ويذرول وزملاؤه، لأنه تبين الآن من خلال النموذج الحوسبي أن “المشاركة الانتقائية” للمعلومات لها نفس التأثير الذي يتمتع به الإنتاج المتحيز للبحوث العلمية. ويوضحون ذلك بقولهم: “لقد اكتشفنا أن وجود مروج دعاية واحد يقوم فقط بمشاركة نتائج البحوث المستقلة للعلماء المؤيدين لنظريتهم المفضلة يكون له تأثير كبير جداً على آراء ومعتقدات صناع القرار. وفي ظل العديد من السيناريوهات، وجدنا أنه في حين تحتشد الآراء العلمية من شتى أنحاء العالم حول حقيقة علمية معينة، يتقارب صناع القرار نحو المعتقد الخاطئ غير العلمي من الناحية الأخرى”.

وهذا التقارب نحو المعتقد الخاطئ غير العلمي لا يتم من خلال التحايل أو الاعتقاد في بحوث سيئة التصميم، بل من خلال انتقاء النتائج العلمية فحسب. بل إننا وجدنا في الواقع أن مروجي الدعاية لا يحتاجون حتى إلى دعم وجهات نظرهم بالبحوث التي أجراها العلماء ضمن شركاتهم أو شركات عملائهم؛ لأنه في ظل وجود اختلاف طبيعي وبديهي بين نتائج التجارب العلمية الموثوقة، يكتفي مروجو الدعاية باختيار النتائج التي تدعم وجهات نظرهم ونظر عملائهم، مما يحدث تأثيراً كبيراً على وجهات نظر صناع القرار والرأي العام. وهذا ما لا يكلفهم شيئاً تقريباً؛ لأن كل النتائج العلمية التي يستخدمونها هي نتائج علمية موثوق فيها فعلاً، إلا أن اختيارهم متحيز وانتقائي.

وتشير هذه النتائج إلى تطبيقات مهمة، من بينها أن أي شخص الآن يريد التلاعب في الرأي العام والتأثير على صناع القرار، يمكن أن يحرز نجاحاً منقطع النظير باستخدام هذه الحيل الخفية إلى حد ما.

وفي هذا السياق، لا يقتصر الأمر على الجهات الشريرة التي تسعى إلى التأثير على صناع القرار بطرق لا توافق الإجماع العلمي بشأن إحدى القضايا فقط، وذلك لأن ويذرول وزملاءه يشيرون إلى أن الصحفيين العلميين يستعملون أيضاً منهجية المشاركة الانتقائية للمعلومات العلمية. ومن بين الأسباب التي تدفعهم إلى ذلك هو وقوعهم تحت ضغط تلبية المواعيد النهائية لمقالاتهم وطبيعتها، حيث يسعون إلى إيجاد القصص العلمية الأكثر إثارة للغرائز أو الاهتمامات، أو الغريبة والعجيبة، وهذا ما يسهم أيضاً في تحيُّز آراء صناع القرار. ومع ذلك، لم نكن ندري من قبل مدى وحجم هذا التأثير في العالم الواقعي.

أما الآن فستكون للنتائج التي أسفرت عنها هذه الدراسة آثار عميقة، حيث يقول ويذرول وزملاؤه: “من المنطقي أن يتوقع المرء أن إنتاج بحوث علمية متحيزة سيكون له أثر أقوى على الرأي العام من مجرد المشاركة الانتقائية للبحوث العلمية المستقلة، لكن هناك طرقاً أخرى أقل بروزاً ووضوحاً، وهي إستراتيجية ماكرة وخفية تتمثل في المشاركة الانتقائية التي أثبتت أن لها أثراً أشد على الرأي العام وآراء صناع القرار من إنتاج البحوث العلمية المتحيزة”.

وتمتد نتائج هذه الدراسة أيضاً إلى طبيعة العلوم بحد ذاتها، فالمشاركة الانتقائية فعّالة لسبب بسيط، هو وجود هذا الاختلاف الشاسع في النتائج المنبثقة عن أنواع معينة من التجارب العلمية، لا سيما ضمن تلك الدراسات البحثية صغيرة المدى ومتدنية الكفاءة.

وهذه المشكلة لا تخفى على المجتمع العلمي، كما أن حلها موجود لكنه غير مطبق على نطاق واسع، وهو: إجراء دراسات أوسع نطاقاً وذات كفاءة وتمويل أكبر. وفي هذا السياق يشير ويذرول وزملاؤه إلى أنه: “لا بد على الهيئات المانحة -نظراً لمحدودية وثبات بعض الموارد المالية- أن توزع هذه الموارد على مجموعة صغيرة فقط من الدراسات العلمية ذات الكفاءة العالية، حيث تتلقى كل واحدة منها تمويلاً جيداً جداً”، كما يضيفون أنه لا بد من تحفيز العلماء الذين يُجرون هذه الدراسات بالمكآفات المالية، حيث يقولون: “على سبيل المثال لا بد من أن نكافئ العلماء عندما تسفر بحوثهم عن نتائج أقوى إستراتيجياً من الدراسات الأخرى، حتى ولو كانت تلك النتائج لا تأتي بجديد في الساحة العلمية”.

وهذا ما يصعِّب الأمر على مروجي الدعاية، حيث يندر لهم أن يجدوا نتائج زائفة يستطيعون استغلالها في تضليل الآراء.

لكن بالنظر إلى مدى الكفاءة والقوة التي تحظى بها منهجية المشاركة الانتقائية للمعلومات، يطرح السؤال التالي نفسه: من الذي سيستخدم دراسة ويذرول وزملائه بفعالية وكفاءة أكبر، ويسبق بذلك غيره؟ هل سيكونون مروجي الدعاية، أم العلماء وصناع القرار؟

المرجع: arxiv.org/abs/1801.01239: كيف تستغل العلم وتؤثر في الناس: دراسة سلوكيات صناع القرار ومروجي الدعاية في الشبكات المعرفية