تخيل أن المشاعر تؤثر حتى على أكثر الحسابات البشرية قسوة وبرودة!

3 دقائق
مصدر الصورة: فريبيك
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

من السهل أن نتخيل دور المشاعر في إعاقة اتخاذ أصعب القرارات. فإذا تخلصنا من هذه الصفة البشرية المرهقة، سيتمكن الأشخاص من اتخاذ قرارات هادئة ومحسوبة في أدق المواقف.

ولكن في الواقع، يبدو أن الأمر مختلف؛ فقد درس علماء الأعصاب -لفترة طويلة- الأشخاص من ذوي الإصابات الدماغية التي تعطل المشاعر، وبدلاً من أن يجدوا أنهم يتحولون إلى شخصيات دقيقة وحاسمة، وجدوا أنهم مصابون بشلل كامل في اتخاذ القرارات. أي أن القرارات اليومية -مثل اختيار اللحم أو الجبن لشطيرتك- لا تعتمد على ما تستخدمه من منطق بارد، بل إنها في نهاية المطاف قرارات عاطفية.

ولكن ماذا عن الحسابات الأكثر تعقيداً مثل تلك المستخدمة في الرياضيات والشطرنج؟ من المؤكد أنها لا تخضع للعواطف البشرية المتقلبة، أليس كذلك؟

في الواقع، قد تكون كذلك، وفقاً لتوماس جونتز (في جامعة جرينوبل في فرنسا)، وبضعة من زملائه؛ حيث يقول هؤلاء الباحثون إنهم قاسوا التغيرات في الحالة العاطفية التي يمر بها لاعبو الشطرنج أثناء مواجهة معضلات متزايدة الصعوبة، ويقولون إن المشاعر تلعب دوراً أساسياً في مساعدة اللاعبين على حل المشاكل المعقدة.

لقد تزايدت القدرة على إجراء قياسات آلية لتغيرات الحالات العاطفية البشرية إلى حد كبير في السنوات الأخيرة، حيث تشير التغيرات في حجم البؤبؤ إلى مستوى التركيز، أما معدل نبض القلب فهو مقياس للتنبه، ويمكن مراقبته بقياس التغيرات في لون بشرة الوجه.

وتشير وضعيات وحركات الجسم أيضاً إلى التغيرات العاطفية، ويمكن مراقبتها بشكل مباشر بالكاميرات ثلاثية الأبعاد (مثل كينيت)، ويمكن ربط كل هذا بالهدف الذي يركز الشخص انتباهه عليه، بقياس اتجاه الرأس وخط نظر العين.

وتقدم هذه المؤشرات بمجموعها صورة شاملة حول الحالة العاطفية للشخص، وتغيُّرها من لحظة إلى أخرى.

وقد قرر جونتز وزملاؤه استخدام هذه الأداة القوية لقياس الحالة العاطفية لثلاثين لاعب شطرنج من ذوي المستوى الممتاز والمتوسط، وذلك أثناء عملهم على حل معضلات متصاعدة الصعوبة في الشطرنج. وكانت كل أحجية تتطلب من اللاعب أن يتغلب على خصم ما، وتُعتبر الأحاجي التي يمكن حلها بثلاث حركات على الأكثر سهلة، أما التي تتطلب ما بين أربع وست حركات فهي صعبة.

وقام الفريق بمراقبة اللاعبين أثناء معالجة كل مشكلة، وتسجيل التغيرات في اتجاه النظر، ووضعية الجسم، والإيقاع القلبي، وتعابير الوجه، وغير ذلك. ومن ثم استخدموا هذه البيانات لاستنباط تغير الحالة العاطفية لكل لاعب خلال أداء المهمة.

وعلى سبيل المثال، يمكن تحديد الحالة العاطفية الأساسية للاعب -السعادة، أو الحزن، أو الغضب، أو الخوف، أو الاشمئزاز، أو التفاجؤ- من خلال التغيرات الصغيرة في تعابير الوجه، كما أن التغيرات في الإيقاع القلبي تشير إلى التنبه، ويعتبر تزايد وتيرة لمس الشخص لنفسه مقياساً للتوتر. يقول الباحثون: “كشفت نتائجنا عن ملاحظات غير متوقعة لتغيرات سريعة للحالة العاطفية أثناء محاولة اللاعب حل المعضلات الصعبة”، ولهذا السبب يعتقد الباحثون أن العواطف تلعب دوراً في عملية اتخاذ القرار: “تقول فرضيتنا الحالية إن التغيرات العاطفية السريعة هي ردود فعل لا إرادية تتعلق بتذكر أوضاع سابقة أثناء عملية استكشاف اللاعب للمعضلة”.

ويعتقد جونتز وزملاؤه أن هذا لا بد من أن يلعب دوراً هاماً في استكشاف شجرة القرار للحركات المحتملة؛ حيث إن أسلوب لاعبي الشطرنج الخبراء في التعامل مع شجرة القرار يختلف كثيراً عن طريقة التفكير عند المبتدئين، فمع الوقت يتعلم اللاعبون الخبراء كيفية التعرف على أنماط معينة من اللعب أو أوضاع القوة والضعف.

وتؤدي هذه القدرة (التعرف على الأنماط) إلى تبسيط عملية تقرير الحركة التالية إلى حد بعيد، وبدلاً من التفكير في كل قطعة على حدة، يفكر اللاعبون المهرة في القطع على شكل مجموعات، ويُعتقد بأنهم يخزِّنون في الذاكرة بعيدة الأمد ما يصل إلى 100,000 من هذه المجموعات. وعند خوض مباراة، يقومون بنقل هذه المجموعات إلى الذاكرة قصيرة الأمد، حيث تتم عملية التفكير.

وهنا يُفترض باللاعبين أن يواجهوا المشاكل؛ وذلك بسبب وجود حد معروف جيداً لمقدار المعلومات التي يمكن للبشر تخزينها في الذاكرة قصيرة الأمد. ففي الستينيات بيَّن جورج ميلر (عالم النفس الأميركي) أننا يمكن أن نخزن ما بين خمس وثماني مجموعات بهذه الطريقة، وإذا تجاوزنا هذا العدد سنصاب بالضياع والارتباك.

إذن فكيف يتعامل لاعبو الشطرنج مع حوالي 100,000 مجموعة إذا لم يكن بوسعهم احتواء أكثر من حفنة منها في نفس الوقت ضمن ذاكرة العمل؟

يقول جونتز وزملاؤه إنهم يستخدمون العواطف، فعندما يرى اللاعب مجموعة مألوفة، فإن تكافؤها بالنسبة إليه (أي المشاعر السلبية أو الإيجابية) يؤدي به إلى أن يقبلها مبدئياً لإجراء المزيد من التحليل والدراسة، أو يرفضها بوصفها خياراً سيئاً، وبهذا يستخدم اللاعبون العواطف لتحريك المجموعات الهامة ما بين الذاكرتين بعيدة الأمد وقصيرة الأمد، وهو ما يؤدي إلى التغير في الحالة العاطفية التي تمكِّن الفريق من تسجيله.

وتؤدي هذه المعلومة إلى نتائج هامة حول فهمنا لطبيعة عملية اتخاذ القرار لدى البشر، وبالنسبة للذكاء الاصطناعي بشكل عام. وقد حرص جونتز وزملاؤه على عدم المبالغة في طرح النتائج، وذلك بالتأكيد على أن العمل ما زال في المراحل المبكرة، وأن هناك الكثير مما يجب فعله.

غير أن هذا العمل يقدم لنا طريقة جديدة ومثيرة للاهتمام للتفكير في مسألة اتخاذ القرار، وكيف يمكن للآلات أن تقوم بهذا بشكل أكثر فعالية، فحتى الآن كانت الآلات تعتمد بشكل أساسي على موارد حوسبة قوية -وتزداد قوة باطراد- لاتخاذ القرارات، وهو ما أدى إلى إزالة الغموض عن مسائل معقدة مثل الدامة والشطرنج، ولعبة جو حديثاً. ولكن إذا طلبت من أنظمة الذكاء الاصطناعي أن تختار ما بين اللحم والجبن، فسوف تصاب بالارتباك فوراً.

وبالتالي فمن الواضح أن العواطف تقدِّم ما يشبه نظام فهرسة يسمح لنا بالوصول السريع إلى ذكريات معينة، ويعتبر فهم تفاصيل هذه الآلية وطريقة تطبيقها على الآلات من الأهداف الهامة التي يجب أن نسعى إليها.

مرجع: arxiv.org/abs/1810.11094:
دور العواطف في حل المشاكل: النتائج الأولى من مراقبة الشطرنج