بدأت الصين تفقد ميلها إلى الطاقة النووية، وهو ليس بالأمر الجيد

6 دقائق
مصدر الصورة: imaginechina | ap images
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قد تكون مسابقة “أجمل صورة زفاف في محطة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية” أغرب مسابقة على الإطلاق، ولكن الشركة الصينية العامة للطاقة النووية “CGN” (وهي أضخم مشغل لمحطات الطاقة النووية في البلاد) تمكنت من تحقيق دعاية إيجابية كبيرة عن طريق دعوة العرسان لإقامة حفلات الزفاف في محطة خليج دايا في مدينة شينجن الصناعية، ونشر الصور على الإنترنت.

فعلى مدى سنوات طويلة، كانت الصين من أهم داعمي الطاقة النووية، على عكس البلدان الأخرى التي فضلت الابتعاد عنها قدر الإمكان. ومن بين أربعة مفاعلات بدأت العمل في 2017 على مستوى العالم، كانت ثلاثة منها في الصين، أما الرابع فقد قامت شركة الصين الوطنية النووية (CNNC) ببنائه في باكستان. وقد تنامى التوليد المحلي للكهرباء بالطاقة النووية في الصين بمقدار 24% خلال الأشهر العشرة الأولى من 2018.

وتستطيع الصين بناء 10 إلى 12 مفاعل سنوياً، وعلى الرغم من أن المفاعلات التي بُدء بها منذ عدة سنوات ما زالت في بداية عملها، إلا أنه لم يتم حفر أساسات أي محطة جديدة في الصين منذ أواخر 2016، وذلك وفقاً لأحدث تقرير سنوي حول وضع الصناعة النووية العالمية.

ومن الناحية الرسمية، ما تزال الطاقة النووية ضرورية للصين، ولكن من الناحية غير الرسمية، فيبدو أنها بدأت تحتضر فيها؛ حيث يرى الكثير من الخبراء -بما فيهم ذوي الصلات مع الحكومة- أن القطاع النووي الصيني بدأ يرزح تحت نفس المشاكل التي يعاني منها الغرب، أي الكلفة المرتفعة للتكنولوجيا، وكره العامة لها.

وإن حادث الانصهار النووي الذي تعرضت له محطة فوكوشيما دايتشي اليابانية في 2011 قد صدم المسؤولين الصينيين، وترك انطباعاً قوياً لدى الكثير من المواطنين الصينيين، فقد اكتشف استبيان حكومي في 2017 أن 40% فقط من العامة يدعمون تطوير الطاقة النووية.

أما المشكلة الكبرى فهي مالية؛ حيث يجب تزويد المفاعلات بإجراءات سلامة إضافية وأنظمة تبريد أكثر استقراراً واستطاعة لتجنب الوقوع في كارثة شبيهة بما حصل في فوكوشيما، مما يعني تكاليف مرتفعة للغاية، خصوصاً عند مقارنتها بتكاليف الطاقة الريحية والشمسية التي ما تزال في تناقص مستمر، وهي الآن أقل تكلفة من بناء محطات نووية جديدة في الصين بنسبة 20%، وفقاً لشركة نيو إينرجي فاينانس التابعة لشركة بلومبيرج. وإضافة إلى هذا، فإن تكاليف البناء الباهظة تجعل من المفاعلات استثماراً غير آمن.

وعلاوة على ما سبق، فقد ولَّت الأيام التي كانت الطاقة النووية ضرورية فيها بشكل ملح لتلبية تصاعد الطلب على الكهرباء في الصين؛ ففي العقد الأول من القرن الجديد، كان استهلاك الطاقة يتزايد بنسبة أكثر من 10% سنوياً مع ازدهار الاقتصاد، والتوسع الكبير لقطاع التصنيع الذي يتطلب الكثير من الكهرباء. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية -ونتيجة تباطؤ النمو وزيادة التنوع الاقتصادي- كان الطلب على الطاقة يزيد وسطياً بمعدل أقل من 4%.

ويتوافق بدء تخلي الصين عن الطاقة النووية مع تناقص عام في الاعتماد عليها حول العالم، حيث تعمل مؤسسات الخدمات العامة المسؤولة عن الكهرباء في كل مكان على إحالة المحطات الموجودة حالياً إلى التقاعد، كما توقفت عن بناء محطات جديدة. وإذا تخلت الصين عن الكهرباء النووية أيضاً، فقد يكون هذا المسمار الأخير في نعش مصدر للطاقة يتميز بالاستقرار والخلو من الانبعاثات الكربونية، الذي يراه الكثيرون ضرورياً لإبطاء التغير المناخي.

كارثة فوكوشيما التي غيرت كل شيء

أطلق مسؤولو الطاقة في الصين الصناعة النووية في الثمانينيات ببناء محطات مثل محطة خليج دايا، وفي 2005 بدأت الصين موجة بناء واسعة لحل مشاكل النقص المزمن في الطاقة والتخفيف من تفاقم تلوث الهواء بسبب محطات التوليد الكثيرة التي كانت تعتمد على الفحم، وبحلول العام 2009 توقع المخططون الحكوميون بأن تصل قدرات التوليد النووية في 2020 إلى 10 أضعاف قيمتها في 2005.

ثم وقعت كارثة فوكوشيما، وشاهد قادة الصين -في حالة من الصدمة الكاملة- كيف فشلت أضخم المنشآت في واحدة من أكثر البلدان تقدماً من الناحية الصناعية في منع سلسلة من الانصهارات النووية.

وأدركوا أن وقوع حادث مماثل في الصين لن يقتصر على الانفجار والتهاطل النووي، بل سيثير الشكوك في كفاءة الحكومة نفسها. يقول ويليام أوفرهولت (وهو خبير في الصين بمدرسة كينيدي للشؤون الحكومية في جامعة هارفارد): “إذا أدى حادث مماثل لحادث فوكوشيما إلى هز تلك الصورة من الكفاءة، فسوف تكون العواقب وخيمة، بل قد يؤدي هذا إلى خرق شرعية النظام نفسه”.

وبعد كارثة فوكوشيما ببضعة أيام تم تجميد بناء المفاعلات النووية في الصين، وعندما استكمل بعد بضعة أشهر -بعد موجة من التدقيقات- أصرَّت بكين على أن تعتمد المشاريع المقبلة للطاقة النووية على تصاميم أكثر تطوراً مع المزيد من إجراءات السلامة.

غير أن هذا لم ينفع في استعادة ثقة العامة التي كانت قد تعرضت لهزة عنيفة، ففي 2013 تجمع أكثر من ألف شخص في جيانجمين، شرق هونج كونج، استنكاراً لمخططٍ لبناء مصنع لوقود اليورانيوم، وخلال بضعة أيام تم شطب المشروع الحكومي، وفي 2016 قام المسؤولون المحليون بتعليق العمل الأولي على موقع في ليانيونجانج، في مقاطعة جيانجسو الشمالية الشرقية، إثر احتجاجات عارمة سبَّبتها معلومات تقول إن الموقع قد يحتوي مصنع تكرير للوقود النووي المستنفد. وفي إثر تلك الحادثة، قام مجلس الدولة الصيني بتعديل مسودة قواعده حول إدارة الطاقة النووية، فارضاً على المطورين إجراء جلسات استماع عامة قبل تحديد مواقع المشاريع.

صدمة مالية

في يونيو المنصرم، بدأ مفاعلان من أكثر المفاعلات تطوراً في العالم يعملان في الصين، وهما المفاعل إيه بي 1000 أميركي التصميم، والمفاعل الفرنسي الألماني إي بي آر. من الناحية النظرية، فإن احتمال وقوع حادث مشابه لفوكوشيما في هذين المفاعلين منخفض للغاية؛ فقد أدت أمواج تسونامي في المحطة اليابانية إلى توقف المولدات الاحتياطية الضرورية للإبقاء على عمل مضخات التبريد، وأدى النقص الكارثي للتبريد إلى انصهار نووي في ثلاثة من المفاعلات الستة ضمن المحطة. غير أن تصميم إيه بي 1000 يعتمد على تخزين الماء فوق المفاعل، بحيث يمكن استخدام الجاذبية لضخه في حال فشل المضخة، أما مفاعل إي بي آر فيعتمد على عدة مولدات وأنظمة تبريد احتياطية لتخفيف احتمال وقوع الانصهار.

لكن إجراءات السلامة الإضافية ليست مجانية، حيث تبلغ كلفة محطة إيه بي 1000 ذات التصميم النموذجي الذي يتضمن مفاعلين: 52.5 مليار يوان (أي 7.6 مليار دولار)، مما يجعل كلفة البناء تصل تقريباً إلى ضعف تكلفة المحطات المستخدمة عادة في الصين. وإن وينكي هان (وهو المدير السابق لمعهد أبحاث الطاقة التابع للمفوضية الوطنية الصينية للتطوير والإصلاح ذات النفوذ الكبير، التي تقود التخطيط الاقتصادي في الصين) يقول إن الطاقة النووية “مكلفة للغاية”، ويضيف: “لقد بدأت الطاقة النووية في الصين بمواجهة المنافسة السعرية، وستشتد هذه المنافسة في المستقبل من دون شك”.

وما زال الفحم أرخص مصدر للطاقة في الصين، ولكن مشرفي الشبكة الكهربائية يواجهون مطالبات مستمرة من الحكومة لاستخدام المزيد من المصادر المتجددة من أجل الحد من التلوث. ومع تزايد الضغوطات من كلا الاتجاهين، فقد تم حتى تخفيف استطاعة محطات الطاقة النووية التي تعمل حالياً، حيث كانت تعمل وسطياً بنسبة 81% من استطاعتها في 2017، أي أقل من استطاعتها قبل خمس سنوات بنسبة 10%، مما يجعل الكهرباء التي تولدها أكثر كلفة.

خيارات متضائلة

لم تقل الحكومة الكثير مؤخراً حول سياستها النووية، ويقوم هدفها الرسمي -الذي تم تحديثه لآخر مرة في 2016- على الانتهاء من بناء قدرة توليد تصل إلى 58 جيجا واط بحلول العام 2020، والبدء في بناء قدرة توليد أخرى تساوي 30 جيجا واط. ويجمع الخبراء على أن الصين لن تحقق هدف 2020 إلا في 2022 على الأقل، كما أن المشاريع المقترحة قبل فوكوشيما لتحقيق 400 جيجا واط أو أكثر بحلول منتصف القرن تبدو الآن ضرباً من الخيال. ويراهن هان أن الصين ستنتقل إلى مصادر أخرى للطاقة بعد الانتهاء من بناء استطاعة التوليد الإجمالية في خطة 2020، البالغة 88 جيجا واط.

ويعتقد آخرون أن الصين ستواصل بناء المفاعلات ولكن بوتيرة أبطأ من ذي قبل؛ حيث إنها تعمل على تطوير تصميم متقدم خاص بها، هو: هوالونج ون، وقد ترغب في حماية صناعتها النووية، بما في ذلك إطلاق جهود حديثة لتصدير المفاعل الجديد. وتقوم CNNC ببناء اثنين في باكستان، وتسعى CGN إلى الحصول على الموافقة التصميمية في المملكة المتحدة، كما أن CNNC تبني اثنين في محطة فوشينج التابعة لها في مقاطعة فوجيان الجنوبية الشرقية، وقد بدأ البناء في 2015، وتقول CNNC إنها ستتمكن من تشغيل مفاعل واحد في 2019، بشكل يستبق الجدول الزمني المقرر.

وإذا تبين أن هوالونج ون باهظ التكاليف، فسوف تتعلق الآمال النووية للصين ببرنامج المفاعلات المتطورة، وهو برنامج يهدف إلى تطوير جيل جديد من التكنولوجيات التي تتضمن مفاعلات مرتفعة الحرارة غازية التبريد، وتصاميم يتم تبريدها بمعدن الصوديوم أو الملح، ونماذج أصغر من المفاعلات ذات الماء المضغوط. ومن المفترض بهذه التصاميم أن تكون أقل تكلفة من ناحية البناء والتشغيل، وأكثر أماناً من المفاعلات التقليدية.

ولكن لا يوجد حتى الآن دليل يثبت أن أياً من هذه التصاميم سيحل المشكلة النووية، فقد تم استكمال مفاعل يعتمد على الصوديوم للتبريد في 2011 قرب بكين، وقد كان يعاني من بعض المشاكل التقنية المألوفة، مثل مشاكل في أنظمة التبريد. كما أن تزايد تكاليف اثنين من المفاعلات مرتفعة الحرارة غازية التبريد -اللذَين يكاد ينتهي بناؤهما قرب خليج شيداو في مقاطعة شاندونج- أدى إلى إلغاء خطة لبناء 18 مفاعلاً آخر من نفس النوع في الموقع.

وهناك دائماً احتمال بالتوصل إلى إنجاز يجعل من الطاقة النووية آمنة ورخيصة بما يكفي لمنافسة الطاقات المتجددة والفحم. ولكن حتى الشركات النووية العملاقة في الصين لا تراهن بشكل كامل على هذا، حيث إن CGN والشركة -التي تمتلكها الدولة والتي تمول استثمارات إيه بي 1000- تعتبران من أكبر 10 مشغلين للطاقات المتجددة في العالم.

وقد يكون الانتقال من الطاقة النووية إلى الطاقات المتجددة إستراتيجية أعمال متعقلة لهذه الشركات، ولكنه قد يعني أيضاً أننا فقدنا خياراً من خيارات الطاقة ذات الانبعاثات الكربونية المعدومة في عالم يواجه خطر التغير المناخي، وإذا تراجعت الطموحات النووية للصين، فقد يكون هذا بداية النهاية للتكنولوجيا النووية في كل مكان.