ماذا يمكن أن يخبرنا هوس المتاجرة بقطط بلوك تشين الملونة عن مستقبل الفن؟

7 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في أواخر العام الماضي، ظهرت لعبة جديدة تسمى “كريبتوكيتيز” (CryptoKitties)، لأول مرة على منصة “إثريوم” القائمة على تقنية بلوك تشين. مبدأ اللعبة سهل جداً: إذ يُمكن للاعبين شراء وبيع ومزاوجة القطط الرقمية لخلق قطط جديدة. فهل هذا سيدل على هوس المتاجرة بقطط البلوك تشين الملونة؟

صفات قطط البلوك تشين الملونة

يحصل هذا الجيل الجديد من القطط على توليفة جديدة من الصفات بناءً على الخوارزميات الوراثية للقطط الأم. بعض الصفات – مثل مدى سرعة تكاثرها وجاذبية شكلها – تجعل بعض القطط نادرة أو مرغوبة أكثر. لدى القطط أيضاً، بفضل تكنولوجيا بلوك تشين، سجل ملكية واضح يُمكن تتبعه. ولكن ربما الأهم من ذلك، أن القطط “لا تستبدل”. وهذا يعني على عكس الذهب أو الدولار، على سبيل المثال، فإن كل كريبتوكيتي فريدة ولا يُمكن استبدالها. (يتم تحديد الأسعار في المزاد)، تحصل الشركة التي طورتها، “آكزيوم زن” (Axiom Zen)، على نسبة من كل صفقة.

على الرغم من التعقيد التكنولوجي الكامن وراءها، فإن كريبتوكيتيز تُعد بسيطة جداً لدرجة أنها تبدو بعيدة عن أن تسمى لعبة. إنها أقرب للمقتنيات، مثل لعبة بيني بيبيز الرقمية، والتي كثيراً ما تُشبّه بها كنظير ملموس. هذه البساطة كانت متعمّدة: حيث قدمت “آكزيوم زن” كريبتوكيتيز على أنها نوع من الأدوات الترفيهية والتعليمية الجذابة لإطلاع الجمهور على المفاهيم التي تكمن وراء البلوك تشين. توضّح الشركة في دليلها الخاص (White Pa-purr) – أن هدف المبتكرين الذين قدموا كريبتوكيتيز هو تصحيح ما تتناولته العناوين الرئيسية حول التقييمات المتقلبة للعملة المشفرة والتعريف الأولي المشبوه لها.

ظهرت كريبتوكيتيز في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، تماماً مثل موجة تداول العملات الرقمية المشفرة المعروفة باسم “كريبتومانيا” والتي بلغت ذروتها عندما تجاوز سعر بيتكوين 10 آلاف دولار وانتهت عند تطرّق برنامج تلفزيون الواقع “ريل هاوسوايفز” لهذا الموضوع عبر “إنستغرام“. وبدلاً من جعل بلوك تشين أكثر قبولاً، تم الأخذ بالقطط الرقمية إلى منحى فقاعة المضاربة الجنونية. في أقل من أسبوع، أنفق اللاعبون أكثر من 3 ملايين دولار على كريبتوكيتيز، وبيعت القطط الفردية بأكثر من 100 ألف دولار. انتشرت اللعبة بسرعة، حيث إنها في وقت من الأوقات استحوذت على 11% من حركة عملة إثريوم. وحتى كتابة هذا التقرير، أنفق المستخدمون أكثر من 23 مليون دولار عليها.

ذكر تود (وهو اسم مستعار)، لموقع “ذا فيرج”ـ أنه جنى الكثير من المال عن طريق شراء كريبتوكيتيز أكثر مما كسبه من حساب تقاعده الفردي. وأضاف تود، وهو مستثمر قديم في كل من إثريوم وبيتكوين، بأنه يعتقد أن تلك القطط هي عملة بديلة أخرى، ولكنها أكثر خطورة.

يمكننا أن نفسر انتقال كريبتوكيتيز الجنوني من أشياء ملونة يُمكن تحصيلها إلى أصول مضاربة، على أنها مجرد مظهر آخر لجنون المستثمرين الذي رأيناه مع فقاعة العملة المشفرة الأخيرة، مثل أسهم الشركات التي ارتفعت لمجرد أن المدراء التنفيذيين ذكروا لفظ “بلوك تشين” ضمن أسماء شركاتهم. لكنني أظن أن تحولاً جذرياً بدأ بالتكشّف هنا، حيث توضّح لنا كريبتوكيتيز كيف أن الفن المبني على بلوك تشين يُمكن أن يصبح مخزناً للقيمة – وهي طريقة مختلفة تماماً عن تلك التي اعتدنا عليها للوصول إلى المحتوى الرقمي والتعامل معه. على الرغم من خطر محاكاة النبرة التعظيمية للمقتنعين الحقيقيين بتقنية بلوك تشين، قد تكون كريبتوكيتيز إشارة أولى تُعلمنا بقدوم ثورة تدعم كيفية تقديرنا وعرضنا للفن على الإنترنت، الذي يحول منتجات الثقافة الشعبية إلى أدوات مالية.

طريقة تعاملنا مع المحتوى المتاح على شبكة الإنترنت

عندما وضّحت كيفية عمل كريبتوكيتيز لأصدقائي وعائلتي، تلقيت تلك النظرات التي تملؤها الحيرة. وقد طرحوا جميعاً السؤال ذاته: لماذا؟ لماذا ينفق أي شخص المال على هذا؟ ألا يُمكن لأي شخص التقاط صورة لهذا؟ من يأبه لامتلاك شيء رقمي؟

إنه سؤال جوهري يتعلق بكيفية تعامل معظمنا مع المحتوى المتوفر لنا عبر الإنترنت. إن البضائع الرقمية اليوم قابلة للاستبدال بدرجة كبيرة، معنى هذا أننا نستطيع استبدال سلعة ما بسهولة. يُمكن للموزع إعادة إنتاج ملف أغنية ما أو صورة أو فيلم ملايين المرات بتكلفة هامشية بسيطة، وتكون جميعها متطابقة تماماً، بغض النظر عن عدد الأشخاص الذين يشاهدونه أو يشغلونه أو ينسخونه. في هذه البيئة تصبح فكرة العمل “الأصلي” للفن الرقمي بلا معنى، ويسهل انتهاك حقوق الملكية.

هذه السهولة في التوزيع تعني أنه يمكن للفنانين نشر أعمالهم بسرعة أكبر من أي وقت مضى، ولكن بنفس الوقت تعدّ هذه الطريقة مكلفة أيضاً، حيث نصل إلى مرحلة إغراق السوق بالمحتوى (مثل وجود ملايين الأغاني التي لا يقوم المستخدمون بتشغيلها على خدمة مشغل الموسيقى سبوتيفاي) بالإضافة إلى شح العائدات، على سبيل المثال، وجود عائدات وهمية غير مدفوعة تقدر بالمليارات لبعض الأغاني التي تم تشغيلها من قبل المستخدمين على سبوتيفاي). غالباً ما يلجأ الفنانون إلى عدد من الوسطاء، حيث يأخذ كل منهم حصته، والذي من المفترض أن يدفع لهم مقابل كل عرض أو بث أو تحميل. إجمالاً، يعمل هذا النمط على تدهور الطبقة الفنية الوسطى.

3 اتجاهات رئيسية حول كيفية عمل البلوك شين

تقدم كريبتوكيتيز لنا مقدمة عن كيفية عمل البلوك تشين والتي في ظاهرها تبدو قادرة على تغيير كل ذلك. لا يزال الفنانون ورواد الأعمال يختبرون استخدامها كشكل جديد من أشكال التوزيع، وحتى الآن يبدو أن 3 اتجاهات رئيسية آخذة في الظهور.

أولها، أن لدى بلوك تشين القدرة على تسهيل خلق ندرة رقمية حقيقية

كما رأينا مع كريبتوكيتيز ويُمكن أن نراها في ازدهار أعمال العملات القابلة للتحصيل، مثل: كريبتوبابيز وكريبتوبانكس وكريبتوبوتس وكريبتوفايترز وكريبتوتوليبس، وغيرها. يُمكن للمؤسسات إصدار كميات محدودة من سلعة ما، وبمساعدة بلوك تشين، تصادق على أن تلك السلعة أصلية. في هذا النمط، يخضع الفن على الإنترنت لقواعد الموثوقية والندرة نفسها التي يخضع لها دون الاتصال بالإنترنت، والتي يَكون فيها امتلاك لوحة أصلية لفنسنت فان جوخ، على سبيل المثال، أكثر قيمة من امتلاك نسخة لها وذلك من الناحية الفنية – ضربات الفرشاة! الألوان! – كما من الناحية المادية – حروب المزايدة! طرح سعر!. (مع ذلك، يبقى السؤال مطروحاً حول الاختلاف الجمالي الحقيقي – ناهيك عن القيمة المالية – الذي يَكمن بين امتلاك عمل فني رقمي “أصلي” ونسخته الرقمية).

ثانياً، يتطلع الفنانون والموزعون إلى تقنية بلوك تشين لتبسيط عمليات الدفع وتعقب حقوق الملكية بشكل أفضل

يُمكن لبلوك تشين تخزين المعلومات وتشكيل أساس نظام “شفاف” لتتبع أصحاب الحقوق على هيئة دفتر حسابات لا مركزي، كما هو الحال في الملفات الموسيقية. باستخدام العقود الذكية، يمكنها تخزين المعلومات وتطبيق الأحكام والمعاملات باستخدام رموز بدلاً من الوسطاء، ويمكنها أيضاً أتمتة العائدات، ونقل المدفوعات بسلاسة من المستهلك إلى الفنان. بالإضافة إلى الدفع للفنانين ما يعادل 0.006 و0.0084 دولاراً نظير تشغيل أي ملف – فقد قامت “سبوتيفاي” مؤخراً بتسوية قضية بملايين الدولارات حيث ادعى المسؤولون التنفيذيون أن الشركة قد أخفقت في الدفع لأصحاب الأغاني لأنها لم تكن تعرف الجهة التي يجب الدفع لها، ولا غرابة أن يفكر البعض من الفنانين في اللحاق بقطار بلوك تشين. بالفعل، تقوم شركات مثل “ميوز” (Muse)، التي تدعم قاعدة بيانات حقوق الموسيقى بإعداد خدمات البث التي تدعمها بلوك تشين، والتي تخزن معلومات حقوق النشر والتراخيص وتؤتمت ملكية العائدات للفنانين والشركات المنتجة للتسجيلات والناشرين. تقول الشركة: “إن الفنانين الذين يسجلون موسيقاهم مع عقد ميوز الذكي، سيتم الدفع لهم فوراً مقابل عملهم على المنصة المنتظرة “بيرتراكس” (Peertracks)، وذلك عن طريق ميوز دولارز (العملة المشفرة الداخلية للشركة)، والتي يمكن بعد ذلك استبدالها بالدولار الأميركي.

ثالثاً، يتطلع البعض أيضاً إلى خلق عملات ذات قيمة مرتبطة بفنان أو عمل معين

سنرى استراتيجية لهذا العمل مع “ميوز”، والتي، بالإضافة إلى توفير خدمات الترخيص والبث، ستسمح للفنانين أيضاً بإصدار طبعة محدودة من العملات التي تسمح للمستمعين بـ “الاستثمار” في فنانين جدد ولصالح أولئك الفنانين، الذين بدورهم، يستطيعون جمع المال. ويستطيع الجمهور بعد ذلك بيع تلك العملات بأسعار أعلى، ويصبح بذلك الفنان أكثر شهرة. . وبالمثل في عالم الفن، إذ تخطط منصة البيع عبر الإنترنت “آرتليري” (Artlery) للسماح للفنانين بإطلاق عروض عامة أولية للأعمال الجديدة من خلال عملة “خاصة بالفن” على بلوك تشين، ما يسمح لرعاة الفن بشراء حصة من العمل الفني، ويمكن بعد ذلك جمع الفوائد أو بيعها لتحقيق الأرباح إذا نجح ذلك العمل.

يزعم المؤيدون مثل إيموغين هيب (Imogen Heap)، وغيره، أن هذه النظم الإيكولوجية المستندة على تقنية بلوك تشين ستغير الفن وطريقة توزيعه نحو الأفضل، وستعزز اتصال الجمهور والمجتمع. لكن السبب الأساسي لتبني هذه التقنيات ليس لغاية دعم المجتمع؛ بل لكسب المال. بالنسبة للفنانين الذين يوزعون أعمالهم من خلال بلوك تشين، هناك حافز لهم لجعل الفن غير قابل للاستبدال (رغم أنه لم يتم تحديد بعد كيفية عمل ذلك مع الفنون الرقمية) بالتماشي مع منصات بلوك تشين، وآيبو فريندلي، لأن هذه المزايا يمكن أن تجعل الفن أكثر ربحية على منصات بلوك تشين.

ولأن الفن كان في مرحلة ما من حياتي هو مصدر رزقي، فأنا أعي أهمية تعويض الفنانين بطريقة عادلة وشفافة لقاء أعمالهم. لكنني أعتقد أيضاً أنه يجب علينا توخي الحذر فيما نطلبه. تماماً كما عملت التغييرات التكنولوجية في الماضي على إعادة تشكيل جذري للفن، فإن بلوك تشين أيضاً لديها القدرة على خلق بعض المبادرات الاقتصادية والإبداعية المشوهة. فكر في مساهمة “آيتونز” في تراجع الطلب على الألبومات، أو مساهمة سبوتيفاي في الرقي بقائمة تشغيل الأغاني. أو فكر في الفرق بين كيف تنظم الشبكات عروض قنوات الكيبل مقابل أن تطلقها منصات البث عبر الإنترنت. في السابق، كانت الشركات تجني المال عن طريق إقحام الإعلانات في المحتوى لإجبار المشاهدين على البقاء خلالها. وفي المرحلة الأخيرة، تعمل المنصات على إفراغ المحتوى الخاص وتنسيق الإعلانات للاحتفاظ بك بطريقة تجعلك تبرر سعر اشتراكك. الاختلافات بين الاثنتين واضحة بما يكفي لجعل الأخير يبدو وكأنه شكل فني جديد، نموذج يشكل المحتوى.

ليس من الصعب تخيل نمط قائم على تقنية بلوك تشين يحول المعجبين إلى أسواق عقود آجلة أو نظام هرمي. في الوقت الحالي، إن إعجابك بأغنية لفرقة جديدة أو عرض لا تجعلك تحظى عادة بأي شيء بعده، ربما بعض التأييد من أصدقائك. ولكن إذا كنت ستستفيد من ذلك الإعجاب، حتى ولو بشيء بسيط، فمن المحتمل أن تتغير طريقة تفاعلك. ربما سيتغير الأمر للأفضل – قد تشعر قليلاً، على سبيل المثال، بأنك مهتم أكثر بفنان ما لأنك قد تكون كذلك حرفياً، أو تعلم أن فرقتك المفضلة تحصل على مدفوعات مباشرة وأفضل كلما شغّلت ملفهم الموسيقي. ولكن يمكن للمرء أيضاً أن يستقرئ مستقبلاً يحاول فيه المستخدمون البشر أو البوتات اللعب على ذلك النظام، ضخ وإغراق الثقافة الشعبية بمواد لا قيمة لها، الاحتيال ليكونوا جهات مؤثرة صغيرة، أو تشكيل أذواقنا لتحقيق مكاسب مالية.

هل يمكن أن تدفع 100 ألف دولار مقابل “تجربة ملكية” قط رقمي؟

لا يزال هذا المستقبل المحتمل بعيداً جداً. لن يتم إطلاق بيرتراكس وآرتليري حتى أواخر هذا العام، ولا نعرف ما إذا كانت هذه المنصات أو مثيلتها ستنجح. في الوقت الحاضر، من الصعب افتراض أن أي شخص يُمكن أن يستثمر في أسواق عقود آجلة. قد يفضل الناس عملاً رقمياً “أصلياً” على عمل منسوخ، ولكن أيضاً لا يُمكن تصور أن يدفع أي شخص 100 ألف دولار مقابل “تجربة ملكية” قط رقمي. كما هو الحال مع كريبتوكيتيز، من المحتمل أن يصبح ذلك العمل الفني منتشراً على بلوك تشين ويصبح أكثر قيمة أيضاً بسبب المراهنين المستعدين لشرائها على أمل إعادة بيعها مع ربح – وهذا الذي سيشكل قيمتها الأساسية.

رأينا بالفعل شيئاً من هذا المستقبل في مجال الفنون خارج العالم الرقمي، والتي ينظر إليها الآن على أنها من فئة الأصول أكثر من أنها قطع أثرية ثقافية أو أشياء تحمل جمالية معينة. لقد أدى ذلك، من بين تطورات سلبية أخرى، إلى ظهور “موانئ حرة“: مستودعات خاصة معفاة من الضرائب حيث يخبئ المستثمرون الأثرياء فيها روائع نادرة وفريدة من نوعها، لا يستطيع رؤيتها حتى الشخص الذي يملكها، وذلك ببساطة لخلق قيمة وتأخير الضرائب. يصبح الفن ثميناً كمخزن للقيمة، لدرجة أنه من الأفضل تخزينه بدلاً من إظهاره كاملاً.

كل ذلك يعود بنا إلى كريبتوكيتيز وإلى هوس المتاجرة بقطط البلوك تشين الملونة، إذ رافق انتشار اللعبة شائعات تقول بأن الحكومات ستضع ضوابط تنظيمية للقطط الرقمية باعتبارها ضمان. لقد نجحت القطط حتى الآن، إنها ببساطة قابلة للتحصيل وآمنة من الحظر الصيني على كريبتوتريدينغ أو إشراف هيئة الأوراق المالية والبورصة الأميركية. لكن حقيقة أنها كانت قريبة من آمنة ، وأنها لم تكن منافية للعقل تماماً، هو أمر في حد ذاته له دلالته. إنها تُظهر التناقض في جوهر دخول بلوك تشين إلى ثقافتنا: وأنه قد نقيّمها فقط باعتبارها عملة أخرى بديلة في محاولة لتعويض الفن.