ما أنظمة الطاقة الحرارية الجوفية المحسّنة وهل يمكن أن تمثّل مصدراً فعّالاً للطاقة النظيفة؟

13 دقيقة
ما أنظمة الطاقة الحرارية الجوفية المحسّنة وهل يمكن أن تمثّل مصدراً فعّالاً للطاقة النظيفة؟
موقع عرض نظام الطاقة الحرارية الجوفية التابع لشركة فيرفو في شمال ولاية نيفادا الأميركية.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في أواخر شهر يناير/ كانون الثاني 2023، بدأت شركة ناشئة متخصصة في الطاقة الحرارية الجوفية بإجراء تجربة في عمق الأرض الصحراوية في شمال ولاية نيفادا الأميركية. تضمّنت التجربة ضخ المياه إلى أعماق تبلغ مئات الأمتار وحصرها هناك لمراقبة ما يمكن أن يحدث.

تعمل محطات الطاقة الحرارية الجوفية من خلال تدوير المياه عبر الصخور الساخنة على أعماق كبيرة تحت سطح الأرض. تخرج المياه في معظم المحطات الحديثة إلى السطح في فوهات الآبار وتكون ساخنة بما يكفي لتحويل المواد المبرّدة والسوائل الأخرى إلى بخار يحرّك التوربينات التي تولّد الطاقة الكهربائية.

مع ذلك، تختبر شركة فيرفو إنيرجي (Fervo Energy) التي مقرها مدينة هيوستن الأميركية تعديلاً مختلفاً عن النهج القياسي، وأجرى مهندسو هذه الشركة والرؤساء التنفيذيون التجربة السابقة الذكر بهدف جمع البيانات فقط.

بيّنت القراءات المأخوذة باستخدام أجهزة القياس الموزّعة عبر نظام يتألف من بئرين تابعتين للشركة أن ضغط المياه بدأ بالتزايد سريعاً مع بدء المياه المحصورة في الآبار بثني الصخور تحت الأرضية. اندفعت المياه خارج البئرين بسرعة عندما فُتح الصمام في النهاية، واستمرت بالخروج بمعدلات أكبر من المعتاد لساعات.

اقرأ أيضاً: ما المطلوب لإطلاق القدرات الكامنة للطاقة الحرارية الأرضية؟

محطات الطاقة الحرارية الجوفية “المرنة”

تشير نتائج التجارب الأولية التي يغطّيها موقع إم آي تي تكنولوجي ريفيو حصرياً إلى أن شركة فيرفو قد تتمكن من إنشاء محطات الطاقة الحرارية الجوفية “المرنة”، أي القادرة على زيادة معدّل توليد الطاقة الكهربائية أو خفضه حسب الحاجة. ما يمكن أن يكون أهم هو أن هذا النظام قادر على تخزين الطاقة لساعات أو أيام وتحريرها على مدى ساعات أو أيام أيضاً، ما يجعله بمثابة بطارية عملاقة وطويلة الأمد. يعني ذلك أنه يمكن إيقاف عمل هذه المحطات عندما تعمل مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بمردود مرتفع، واستخدامها لتوفير تدفق كبير من الطاقة الكهربائية النظيفة عندما ينخفض مردود هذه المصادر.

ثمة تساؤلات حول فاعلية هذه الطريقة وأمانها وإمكانية تطبيقها بتكلفة معقولة على المقاييس الأكبر. ولكن إذا تمكّنت شركة فيرفو من إنشاء المحطات التجارية التي تتمتع بهذه القدرة الوظيفية الإضافية، سيؤدي ذلك إلى حل مشكلة كبيرة تعاني منها شبكات الطاقة الكهربائية، ما يجعل التخلص من انبعاثات الغازات الدفيئة الناجمة عن أنظمة توليد الطاقة الكهربائية أسهل وأقل تكلفة.

يقول الرئيس التنفيذي والمؤسس الشريك لشركة فيرفو، تيم لاتيمر (Tim Latimer): “نعلم أن توليد الطاقة الحرارية الجوفية التقليدية وبيعها مفيد للغاية لشبكة الطاقة الكهربائية. ولكن بمرور الوقت، ستزيد قدرتنا على الاستجابة لحاجة الشبكة إلى الطاقة الكهربائية وزيادة الإنتاج وخفضه وتخزين الطاقة من قيمة الطاقة الحرارية الجوفية”.

اقرأ أيضاً: بيل جيتس يموِّل شركة ناشئة للطاقة الحرارية الأرضية

“طريق الطاقة الحرارية الجوفية السريع”

أجريت مع موظف في شركة فيرفو في أوائل شهر فبراير/ شباط 2023 رحلة إلى موقع الشركة بصحبة لاتيمر، الذي نقلنا من مطار رينو إلى الموقع التابع للشركة بالسيارة.

قال لاتيمر وهو يقود شاحنة تابعة للشركة بينما مررنا بأول محطة من محطات الطاقة الحرارية الأرضية العديدة على طول الطريق السريع 80: “مرحباً بكم في طريق الطاقة الحرارية الجوفية السريع”.

يخترق هذا الطريق السريع صحراء منبسطة في وسط معلم بيسن آند رينج (Basin and Range) الوطني في ولاية نيفادا الأميركية، وهو سلسلة من الوديان المتوازية والسلاسل الجبلية التي تشكّلت نتيجة انفصال الصفائح التكتونية.

قال الكاتب الأميركي، جون ماكفي (John McPhee)، في كتاب الحوض والسلسلة (Basin and Range) الذي أُصدر عام 1981 إن القشرة الأرضية في هذا المعلم تمددت وترققت وانقسمت إلى كتل مالت، مشكّلة الجبال على الجزء العالي بينما ملأت الرواسب والماء الأحواض وبسطتها. من وجهة نظر حرارية جوفية، ما يهم هو أن كلاً من التمدد والميول تسبب بجعل الصخور في هذه المنطقة قريبة نسبياً من السطح.

اقرأ أيضاً: شركة فنلندية تطور بطارية رملية قادرة على تخزين الطاقة المتجددة لعدة أسابيع

فوائد الطاقة الحرارية الجوفية

ثمة العديد من الفوائد للطاقة الحرارية الجوفية؛ إذ إنها توفّر مصدراً دائماً غير محدود من الناحية العملية للطاقة الحرارية والكهربائية النظيفة التي لا تتسبب بالانبعاثات. إذا تمكّنت الولايات المتحدة من جمع 2% فقط من الطاقة الحرارية الجوفية المخزّنة في الطبقات التي يتراوح عمقها بين 3.2 و9.6 كيلومترات تحت سطحها، فيمكن أن تنتج أكثر من ألفي ضعف من كمية الطاقة التي تستهلكها سنوياً.

ولكن بسبب القيود الجيولوجية وتكاليف رأس المال المرتفعة والعوائق الأخرى، لا تستخدم الولايات المتحدة الطاقة الحرارية الجوفية على الإطلاق تقريباً؛ إذ تبلغ نسبة الطاقة الكهربائية المولدة من الطاقة الحرارية الجوفية في البلاد 0.4% من إجمالي الطاقة الكهربائية. 

تمكّنت الشركات المطورة لمحطات الطاقة الحرارية الجوفية حتى الآن من الاستفادة من المواقع الاقتصادية ذات الإمكانات العالية فقط، مثل معلم بيسن آند رينج في ولاية نيفادا. وتضطر هذه الشركات إلى الحفر في الصخور المسامية النَّفوذة الساخنة التي توجد على أعماق منخفضة نسبياً. يعتبر عامل نفوذية الصخور ضرورياً لتحرك المياه في أنظمة الطاقة الحرارية الجوفية التي تحتوي على بئرين يحفرهما البشر، ولكنه عامل غالباً ما تفتقر إليه المناطق الأخرى التي كان من الممكن الاستفادة منها لو كانت تحتوي على هذه الصخور.

اقرأ أيضاً: 12 استخداماً سلميّاً للطاقة النووية

بدأ الباحثون في مختبر لوس ألاموس الوطني منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي بالتوصل إلى حلول هندسية لمشكة غياب الصخور النفوذة. وجد هؤلاء أنهم قادرون على تشكيل الشقوق في الصخور الصلبة نسبياً والساخنة للغاية أو توسيعها بتطبيق تقنيات التصديع المائي المشابهة لتلك المستخدمة في قطاع النفط والغاز. بيّن الباحثون أنه يمكن عندئذ صب المياه في الشقوق، ما يمكّنهم من تشكيل مشعاعات في أعماق الأرض.

تعمل أنظمة الطاقة الحرارية الجوفية “المحسّنة” هذه بشكلٍ مشابه لأنظمة الطاقة الحرارية الجوفية الأخرى، ولكنها تُتيح إمكانية إنشاء محطات الطاقة في المناطق التي لا تكون فيها الصخور نفوذة بما يكفي لتسمح للماء بالدوران بسهولة. جادل الباحثون في هذا المجال لعقود من الزمن بأنه إذا تمكّنوا من تخفيض تكلفة هذه التقنيات، فإنهم سيتمكنون من الاستفادة من مناطق واسعة حول العالم لتطوير قطاع الطاقة الحرارية الجوفية.

قدّرت دراسة بارزة نُشرت عام 2006 وأجراها باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن محطات الطاقة الحرارية الجوفية المحسّنة يمكن أن تنتج 100 غيغاواط من الطاقة الحرارية التي يمكن إضافتها إلى السعة الطاقية لشبكات الطاقة الكهربائية بحلول عام 2050 من خلال استثمار تبلغ تكلفته مليار دولار ويستمر لمدة 15 عاماً فقط، ما يضع الطاقة الحرارية الجوفية في الفئة نفسها التي تنتمي إليها مصادر الطاقة المتجددة الأكثر شيوعاً. (للمقارنة، أُضيف نحو 135 غيغاواط من الطاقة الكهربائية المولّدة من الطاقة الشمسية و140 غيغاواط من الطاقة الكهربائية المولدة باستخدام طاقة الرياح إلى سعة شبكة الطاقة الكهربائية في الولايات المتحدة).

تقول المؤلفة المشاركة للدراسة السابقة الذكر ومؤسسة شركة ألتا روك إنيرجي الناشئة (AltaRock Energy) التي مقرها مدينة سياتل الأميركية والمتخصصة في الطاقة الحرارية الجوفية، سوزان بيتي (Susan Petty): “إذا تمكنا من التوصل إلى طريقة لاستخراج الحرارة من الأرض في مناطق لا تحتوي على أنظمة حرارية جوفية تدور فيها الحرارة بشكلٍ طبيعي، سنتمكن من الاستفادة من مورد هائل للغاية”.

لم تقم الولايات المتحدة بهذا الاستثمار بأكمله خلال الفترة الزمنية المذكورة في الدراسة. ولكنها حوّلت مجال الطاقة الحرارية المحسّنة إلى مجال أهم تدريجياً في السنوات الأخيرة.

بدأت الجهود الفدرالية الكبيرة قرابة عام 2015 عندما أعلنت وزارة الطاقة الأميركية عن خططها لإنشاء مختبر المرصد الرائد لأبحاث الطاقة الحرارية الجوفية (Frontier Observatory for Research in Geothermal Energy). بدأت أخيراً عمليات الحفر في موقع يوتا فورج (Utah FORGE) بالقرب من مدينة ميلفورد في ولاية يوتا الأميركية عام 2016. وتلقّى هذا المختبر البحثي تمويلاً فدرالياً يبلغ نحو 220 مليون دولار حتى الآن. أعلنت وزارة الطاقة مؤخراً عن خططها لاستثمار مبالغ إضافية تبلغ عشرات الملايين من الدولارات في مجال الطاقة الحرارية الجوفية من خلال مبادرة تحمل اسم “محاولة الأنظمة الحرارية المحسنة” (Enhanced Geothermal Shot).

لكن الولايات المتحدة حالياً تحتوي على عدد قليل فقط من الأنظمة الحرارية الجوفية التي تعمل على النطاق التجاري.

اقرأ أيضاً: ما أنواع الطاقة الشمسية وما أبرز مميزاتها وعيوبها؟

رهان شركة فيرفو

قرأ لاتيمر الدراسة التي أجراها الباحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عندما كان مهندس حفر في شركة بي إتش بي (BHP)، وهي شركة لتعدين المعادن والنفط والغاز في مرحلة كان يشعر فيها بالقلق المتزايد حول التغير المناخي. اعتقد لاتيمر نتيجة للعمل الذي مارسه أن قطاع الغاز الطبيعي المعتمد على التصديع حل بالفعل بعض المشكلات الاقتصادية والفنية المذكورة في الدراسة.

استقال لاتيمر من وظيفته في النهاية والتحق بكلية ستانفورد للأعمال بهدف تأسيس شركة ناشئة متخصصة في مجال الطاقة الحرارية الجوفية. التقى لاتيمر بعد وقت قصير جاك نوربيك (Jack Norbeck)، الذي كان يُنهي أطروحة الدكتوراة الخاصة به في الكلية نفسها. تضمّنت هذه الأطروحة فصلاً يركّز على النمذجة التطبيقية للحلول الهندسية السابقة الذكر التي توصل إليها الباحثون في مختبر لوس ألاموس الوطني.

أسس لاتيمر ونوربيك شركة فيرفو عام 2017. جمعت هذه الشركة منذ ذلك الحين نحو 180 مليون دولار من رأس المال المغامر من شركة بريكثرو إنيرجي فينتشرز التي أسسها بيل غيتس (Bill Gates) وشركة دي سي في سي (DCVC) وشركة كابريكورن إنفيستمنت غروب (Capricorn Investment Group) وغيرها. أعلنت هذه الشركة أيضاً عن العديد من اتفاقيات شراء الطاقة التجارية المتعلقة بمشاريع الطاقة الحرارية الجوفية المحسّنة المستقبلية، مثل مشروع إنشاء محطة بقدرة 5 ميغاواط في الموقع السابق الذكر في ولاية نيفادا ستساعد على تزويد نشاطات شركة جوجل (Google) بالطاقة في هذه الولاية.

اقرأ أيضاً: ما مصادر الطاقة المتجددة في السعودية؟

ستكون شركة فيرفو ملزمة بموجب هذه الاتفاقيات بتوفير تدفق مستقر من الطاقة الكهربائية التي لا يتسبب توليدها بانبعاثات الكربون، وهو التزام لا يتوافق مع ميزات المرونة التي سعت للبحث فيها. ولكن منذ البداية تقريباً، أخبر العملاء المحتملون مثل شركات الخدمات شركة فيرفو، أنهم بحاجة إلى تحضير مصادر الطاقة النظيفة التي يمكن زيادة معدل توليد الطاقة منها أو خفضه عند الحاجة، وذلك للالتزام بالقوانين المتعلقة بالمناخ التي تزداد صرامة، وموازنة كمية الطاقة الكهربائية التي تولّدها المصادر المتقلبة مثل الرياح والشمس التي تُستخدم في شبكة الطاقة الكهربائية.

قال نوربيك إنه أدرك ولاتيمر أنه “إذا تمكنا من حل هذه المشكلة، فقد نتمكن فعلاً من التوصل إلى طريقة لتغيير العالم”.

بدأ الخبراء في شركة فيرفو باستكشاف ما إذا كان بإمكانهم حل هذه المشكلة بالاستفادة من ميزة أخرى تتمتع بها أنظمة الطاقة الحرارية الجوفية المحسّنة سلّط عليها الضوء باحثو مختبر لوس ألاموس الوطني أيضاً في تجارب لاحقة.

يؤدي إنشاء الصدوع في الصخور منخفضة النفوذية إلى منع المياه التي تُضخ في النظام من التسرب بسهولة إلى مناطق أخرى. وبالتالي، إذا أُغلق نظام الآبار واستمر ضخ المياه فيه، فيمكن أن يؤدي ذلك إلى تراكم الضغط الميكانيكي داخل النظام؛ إذ إن الأجزاء المتصدعة من الصخور ستطبّق قوة ضغط على الأرض.

يقول نوربيك: “الصدوع تتمدد وتغيّر شكلها، مثل البالونات تقريباً”.

يمكن عندها الاستفادة من هذا الضغط الآخذ في التزايد. لاحظ الخبراء في شركة فيرفو في سلسلة من تجارب النمذجة الحاسوبية أنه بمجرد فتح صمام المياه مرة أخرى، ستنكمش هذه الصدوع وسيزداد تدفق المياه ومعدل توليد الطاقة الكهربائية. يمكن أن يولّد هذا النظام الطاقة الكهربائية لأيام إذا “شحن” الباحثون الصدوع لأيام، أي إذا أضافوا المياه إليها وحصروها فيها.

مع ذلك، كان على الخبراء التحقق مما إذا كانت هذه الطريقة فعّالة في الواقع.

اقرأ أيضاً: ماذا حل بالمفاعلات النووية الأصغر حجماً التي كنا موعودين بالحصول عليها؟

الاختبارات على الأرض

بعد الدخول في مقاطعة هامبولت في ولاية نيفادا، وجّه لاتيمر سيارته إلى طريق ترابي. وفي النهاية، ظهر الموقع الذي تعمل فيه شركة فيرفو؛ إذ رأينا أولاً جهاز حفر أبيض اللون يبلغ ارتفاعه 45 متراً في الصحراء بنية اللون. تتضمن الطبقات تحت هذه المنطقة من الأرض بالتحديد الصخور الساخنة على أعماق ضحلة، التي لا تتمتع بالنفوذية المطلوبة لعمل المحطات التقليدية.

في عام 2022، حفرت هذه الشركة بئريّ سَبر في هذه المنطقة باستخدام رأس ثقب ذي قاطعات ثابتة يبلغ قطره نحو 25 سنتيمتراً لاختراق التكوينات التي تتألف من مزيج من الصخور المتحولة والغرانيت ببطء. تنحني البئران تدريجياً تحت الأرض، ويصل عمق كل منهما إلى نحو 2,400 متر، بينما يبلغ عرضهما نحو 1,200 متر.

ضخ خبراء الشركة الماء البارد في الآبار حيث تعرّض لضغط مرتفع بهدف تشكيل مئات الصدوع العمودية بين البئرين، التي تسببت بدورها بتشكل مشعاع عملاق تحت أرضي بين الصخور تصل درجة حرارته إلى نحو 193 درجة مئوية.

ما أنظمة الطاقة الحرارية الجوفية المحسّنة وهل يمكن أن تمثّل مصدراً فعّالاً للطاقة النظيفة؟
الرئيس التنفيذي لشركة فيرفو، تيم لاتيمر (على اليمين)، ومهندس الحفر، إريك إيدي (Eric Eddy، على اليسار)، في موقع الحفر شمال ولاية نيفادا الأميركية. شركة فيرفو إنيرجي.

أغلق الخبراء صمام ما يعرف ببئر الإنتاج قرابة الساعة الثامنة صباحاً بتاريخ 28 يناير/ كانون الثاني 2023. تصعد المياه إلى السطح بشكل طبيعي في هذه البئر، وبدأت الاختبارات الأولى التي أطلقت عليها الشركة اسم فيرفو فليكس (Fervo Flex) مع إغلاق هذا الصمام. ارتفع ضغط المياه إلى مئات آلاف النيوتنات لكل متر مربع واستمر بالارتفاع تدريجياً خلال الساعات العشر التالية أو نحو ذلك.

وقف نوربيك بالقرب من هذه البئر عندما فتح العمال الصمام قرابة الساعة السابعة مساءً، ونظر عندها إلى المقياس الفقاعي في جهاز كبير أصفر اللون يحمل اسم الصندوق الهدّار، وهو جهاز بسيط مُثبت الفاعلية يستخدم لقياس معدلات التدفق. تسبب الماء الساخن بتشكل موجة من البخار فور تلامسه مع الهواء، وارتفعت القراءات المختلفة بمقدار كبير بشكلٍ مفاجئ.

واصل موظفو الشركة الاختبارات لعدة أيام وأغلقوا البئر لمدة تتراوح بين 8 و10 ساعات ثم فتحوها مرة أخرى لمدة 14 ساعة أو أكثر، وشغّلوها كما لو أنها مكافئ لمحطة توليد الطاقة الشمسية تنتج كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية خلال النهار وتزود الشبكة الكهربائية بها. في صباح اليوم الذي وصلنا فيه إلى الموقع، كان الخبراء في الشركة في خضم محاولة استغرقت عدة أيام لتشغيل النظام دون ضخ المزيد من المياه في الآبار، وذلك لتحديد المدة التي يمكن أن يمثّل فيها شكلاً من أشكال مخازن الطاقة.

قد تكون شركة فيرفو أول شركة تختبر طرق الجمع بين تخزين الطاقة ومرونة إنتاجها في موقع لتوليد الطاقة الحرارية الجوفية المحسنة. قدّمت وكالة المشاريع البحثية المتقدمة المتخصصة بالطاقة (ARPA-E) التابعة لوزارة الطاقة الأميركية 4.5 مليون دولار لشركة فيرفو لتمويل التجارب.

شغّل لاتيمر حاسوباً محمولاً وقدّم لنا عرضاً تقديمياً داخل إحدى عربات السلامة في الموقع. احتوت المجموعة من الرسوم البيانية التي عرضها لاتيمر على سلسلة من المنحنيات والارتفاعات السلسة التي حدثت مع ازدياد الضغط وإنتاج الطاقة في كل اختبار. فتح لاتيمر بعد ذلك صفحة تحتوي على النتائج السابقة لعمليات النمذجة، التي تطابقت بشكلٍ أو بآخر مع نتائج الاختبارات.

قال لاتيمر: “الخلاصة هي أن النظام يعمل. وتتطابق نتائج النمذجة التي أجريناها مع التجارب تماماً”.

اقرأ أيضاً: تعرف إلى استخدامات الطاقة الشمسية في حياة الإنسان قديماً وحديثاً

الفوائد للشبكة الكهربائية

يكمن التحدي الأساسي في إنشاء قطاع طاقة لا يتسبب بانبعاثات الكربون في أن كمية الطاقة الكهربائية التي تولدها مزارع الرياح والطاقة الشمسية تتقلب كثيراً يومياً وسنوياً.

سيتسبب ذلك في خلق تحديات تزداد صعوبة التغلب عليها لتصبح مصادر الطاقة المتجددة المصادر الرئيسية للطاقة في الشبكة الكهربائية. وجدت الدراسات أن تكاليف النظام الإجمالية تبدأ بالارتفاع كثيراً عندما تتجاوز نسبة الطاقة الكهربائية التي تولدها مصادر الطاقة المتجددة 80% تقريباً من الطاقة الكهربائية الكلية، إلا إذا استفدنا من مصادر أساسية للطاقة الكهربائية لا تتسبب بانبعاثات الكربون وتعمل عند الطلب، وتوصلنا إلى طرق طويلة الأمد ومنخفضة التكلفة لتحزين الطاقة أو حلول فنية أخرى.

يعود ذلك إلى أن الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والمصادر المتقلبة الأخرى قد لا توفّر كمية كافية من الطاقة لتشغيل مختلف الأنظمة خلال الليل أو النهار في فترات ممتدة من العام. يضطر القائمون على الشبكات المحلية التي تعتمد بشكلٍ شبه كامل على هذه الموارد إلى إضافة مخازن كبيرة من البطاريات المكلفة وقصيرة العمر نسبياً، وإنشاء المزيد من محطات توليد الطاقة لتزويد الشبكة بالكهرباء لإضاءة المناطق التي تغطّيها هذه الشبكات.

يمكن الاستفادة من محطات توليد الطاقة الحرارية الجوفية التي يمكن أن تزيد من إنتاج الطاقة وتخفّضه عند الطلب وتحل محل مصادر الطاقة المتجددة لساعات أو أيام لحل هذه المشكلات؛ إذ إنها توفّر مورداً بالغ الأهمية لشبكات الكهرباء التي تعتمد بشكلٍ متزايد على الطاقة النظيفة.

يقول لاتيمر: “ستمكّن الابتكارات التكنولوجية التي نثبت فاعليتها قطاع الطاقة الحرارية الجوفية من توفير 20% من إجمالي الطاقة التي نحتاج إليها بسهولة”.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن الاستغناء عن الوقود الأحفوري لصالح الطاقة المتجددة؟

في عام 2022، أجرت مجموعة من الباحثين من جامعة برينستون الذين عملوا مع شركة فيرفو سلسلة من المحاكيات للشبكات الكهربائية التي لا تتسبب بانبعاثات الكربون التي يمكن أن تغطي غرب الولايات المتحدة بحلول عام 2045، وذلك بهدف تحديد التكنولوجيات التي يمكن استخدامها لتطوير الأنظمة الأقل تكلفة.

أدّت إضافة ميزات المرونة في توليد الطاقة التي طوّرتها شركة فيرفو إلى بروز الطاقة الحرارية الجوفية كخيار ملائم أكثر. تحتوي الولايات المتحدة حالياً على نحو 4 غيغاواط من الطاقة الكهربائية المولدة من الطاقة الحرارية الجوفية. بيّنت المحاكيات أنه في السيناريوهات المستقبلية، يمكن إضافة ما بين 25 و74 غيغاواط من الطاقة الحرارية الجوفية المرنة (أي التي يمكن التحكم بإنتاجها حسب الحاجة) إلى الشبكات الكهربائية التي لا تتسبب بانبعاثات الكربون، وذلك مقارنة بكمية من الطاقة قد تصل إلى 28 غيغاواط فقط يمكن إضافتها إذا لم تعتمد محطات توليد الطاقة الحرارية الجوفية على تقنية إنتاج الطاقة حسب الحاجة. وفقاً للمحاكيات، أدّت القدرات الإضافية لمنشآت الطاقة الحرارية الجوفية المرنة أيضاً إلى انخفاض تكاليف الأنظمة الإجمالية بنسبة تصل إلى 10%.

يقول الباحث في أنظمة الطاقة في جامعة برينستون والمؤلف الرئيسي للورقة البحثية التي تفصّل هذه المحاكيات (وهي ورقة تخضع حالياً لمراجعة الأقران)، ويلسون ريكس (Wilson Ricks) “إذا تمكنا من جعل هذه الأنظمة فعّالة، فسيمثّل ذلك إنجازاً كبيراً”.

يُفترض أيضاً أن تزيد ميزات المرونة هذه من القيمة الاقتصادية لمحطات الطاقة الحرارية الجوفية وأرباحها، ما قد يسهّل عملية تمويلها.

توصّل الخبراء في شركات أخرى إلى طرق لتخفيض معدل إنتاج الطاقة في محطات الطاقة الحرارية الجوفية منذ زمن طويل. لكن تخفيض إنتاج هذه المحطات ليس منطقياً من الناحية المالية عادة؛ إذ إنه يعتمد على إيقاف المحطات وعدم الحصول على الأموال بالنتيجة.

مع ذلك، يقول لاتيمر إنه في حالة تكنولوجيا شركة فيرفو، يمكن لمنشآت الطاقة الحرارية الجوفية أن تخفّض من إنتاج الطاقة في الفترات التي يتسبب فيها توفّر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بكميات كبيرة بانخفاض أسعار الجملة للكهرباء، وتزيد من الإنتاج بمقدار كبير عندما تنخفض كمية الطاقة التي توفرها هذه المصادر وترتفع الأسعار.

اقرأ أيضاً: قد لا تظن ذلك: لكن للطاقات المتجددة أضراراً بيئية أيضاً!

الأسئلة المفتوحة

على الرغم من نجاحاتها، فإن شركة فيرفو تواجه بعض التحديات الكبيرة.

على الرغم من أن نتائج النماذج الحاسوبية والاختبارات الميدانية تبدو واعدة، فإن تطبيق تكنولوجيا الشركة في المحطات التجارية قد يتطلب إجراء تغييرات كبيرة في قواعد سوق الكهرباء واتفاقيات شراء الطاقة. لا تزال القواعد والاتفاقيات المعمول بها حالياً تحفّز الشركات إلى حدٍ كبير على إنتاج الطاقة بالسعة القصوى دائماً.

ستضطر شركة فيرفو أيضاً إلى بذل الكثير من الجهد لإثبات أن إمكانات التخزين وزيادة الإنتاج هذه يمكن الاستفادة منها بشكل مستمر داخل المحطات التجارية واسعة النطاق التي يمكن إنشاؤها في مجموعة متنوعة من المناطق التي تتمتع بطبيعة جيولوجية مختلفة.

في الوقت نفسه، ثمة أسئلة مهمة يجب الإجابة عنها حول الأنظمة الحرارية الجوفية المحسّنة كمفهوم أساسي، بغض النظر عن الميزات الإضافية التي تستكشفها شركة فيرفو.

تعرّض هذا المجال لضربة قوية في عام 2009 عندما بدا أن نشاطاً تجارياً أجري في مدينة بازل السويسرية تسبب بسلسلة من الزلازل الصغيرة التي شملت زلزالاً بقوة 3.4 على مقياس ريختر أدّى إلى أضرار قُدّرت بملايين الدولارات.

يقول الباحث الإداري الرئيسي في موقع يوتا فورج، جوزيف مور (Joseph Moore)، إن الباحثين حققوا منذ ذلك الحين تقدماً كبيراً في بعض المناحي مثل اختيار الموقع وتصميم الآبار والممارسات الأخرى التي تقلل من احتمالية إحداث الزلازل الكبيرة. يضيف مور قائلاً إن ميزات التخزين والمرونة الإضافية التي تبحث فيها شركة فيرفو لن تتسبب بأي مخاطر إضافية من هذا النوع على الأرجح.

مع ذلك، تبقى الزلازل المستحثّة مشكلة يجب معالجتها بعناية ومراقبتها باستمرار، وهي تخلق مخاوف للمجتمعات التي تفكر في إجراء مثل هذه المشاريع.

بالإضافة إلى ذلك، لم تُنشئ الدول العديد من الأنظمة الحرارية الجوفية المحسّنة أو تشغلها لفترات طويلة. يقول رئيس برنامج الطاقة الحرارية الجوفية في مختبر آيداهو الوطني، ترافيس ماكلينغ (Travis McLing)، إن إنشاء ما يكفي من الصدوغ والمسارات بفاعلية لضمان معدلات التدفق اللازمة في حالات وأماكن معينة قد يكون صعباً أو مكلفاً.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تفقد هذه الأنظمة نفوذيتها بمرور الوقت مع ظهور الأغشية الحيوية في الآبار وتشكّل المعادن في الصدوع وحدوث التغيرات الأخرى. وفقاً لماكلينغ، قد تخفّض هذه التغيرات من مردود الأنظمة وتضعف الاقتصاد؛ إذ قال في رسالة عبر البريد الإلكتروني: “استدامة المخازن هي مصدر القلق الأكبر بالنسبة لي”.

اقرأ أيضاً: هل يمكننا تخفيف النسبة الكبيرة لانبعاثات ثنائي أكسيد الكربون الناتجة عن الفولاذ؟

“الأسس الأكثر أهمية”

يؤكّد لاتيمر أيضاً أن الباحثين في مجال الطاقة الحرارية الجوفية توصلوا إلى فهم أعمق بكثير للمخاطر الزلزالية وطوّروا الممارسات التي تقلل من احتمالية إحداث الزلازل الكبيرة.

يتضمن ذلك الحفر أفقياً عبر مناطق جيولوجية متعددة لموازنة التغيرات في الضغط عبر مناطق أوسع، كما فعلت شركة فيرفو في ولاية نيفادا. دخلت هذه الشركة في شراكة مع هيئة المسح الجيولوجي الأميركية لمراقبة النشاط الزلزالي عن كثب في الموقع وتقييم التقنيات الأخرى التي طُورت للتقليل من هذه المخاطر.

تركّز شركة فيرفو في خطتها التجارية بشكلٍ أساسي على إنتاج تدفق ثابت للطاقة الكهربائية النظيفة. من المخطط أن تبدأ محطة نيفادا في إنتاج الطاقة الكهربائية النظيفة لصالح شركة جوجل والعملاء الآخرين في وقت لاحق من عام 2023.

ولكن يعتقد كلٌّ من لاتيمر ونوربيك أن ميزات المرونة والتخزين ستمثّل فوائد اقتصادية تُضاف إلى المزايا الأساسية لأنظمة الطاقة الحرارية الجوفية المحسّنة، وأن النتائج الأولية للتجارب الميدانية تبين أن استكشاف إمكانات هذه الأنظمة يستحق العناء بلا شك.

اقرأ أيضاً: كيف يسهم الذكاء الاصطناعي في حل المشكلات التي تعترض صناعة الطاقة الشمسية؟

يقول نوربيك: “منحتنا هذه النتائج ثقة بأن الأسس الأكثر أهمية موجودة. والآن، ما علينا سوى تحسين هذه الأنظمة وخفض تكلفتها وما إلى ذلك. لكن من الناحية الفيزيائية، فإن التكنولوجيا فعّالة والمفهوم قابل للتطبيق”.