الحرب التجارية وجائحة كوفيد يدفعان شركات التصنيع الصينية نحو الداخل

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إذا سألت تشو كاييو عن مصنعه، فسيقدم لك سلسلة من الإحصاءات التي ستثير إعجابك: فمساحة المصنع تبلغ 15 ألف متر مربع، ويعمل به 800 موظف يستخدمون 300 ماكينة تصنيع، ويبيع 5 ملايين قطعة ملابس سنوياً. كان تشو قد افتتح مصنع الملابس الجاهزة هذا في دونغقوان بمقاطعة جوانجدونج الصينية عام 2002، وهو فخور بكونه شريك التصنيع الموثوق فيه لشركات أجنبية، على غرار فل بيوتي براندز (Full Beauty Brands)، التي تمتلك العديد من العلامات التجارية الأميركية للملابس الرجالية والنسائية ذات المقاسات الكبيرة. ويقول إن 30% من إيراداته في السنوات العادية تأتي من الخارج.

إلا أن الأمور لم تعد طبيعية منذ عام 2018؛ فعلى صعيد صناعة الملابس، بدأت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في الضغط على صناع الملابس، الذين يمثلون أحد قطاعات التصنيع الصينية المعتمدة بشكل كبير على مبيعات التصدير. ونتيجة لذلك، تأخر شحن طلبات الشراء المُقدمة والتي جرى تصنيعها بالفعل لمدد تصل إلى ثلاثة أشهر، الأمر الذي وجه ضربة إلى أرباح تشو، وتسبَّب في تكدس أماكن التخزين الخاصة به بمخزونات غير قابلة للبيع.

ولم يكد نشاطه التجاري يتعافى، حتى اجتاح مرض كوفيد-19 العالم، فتوقفت الصادرات، الأمر الذي أثقل كاهل تشو بسيل من طلبات الإلغاء لأوامر شراء تقدر قيمتها بما يتراوح بين 4 و5 ملايين دولار. كما عانت المبيعات المحلية أيضاً نتيجة إغلاق المتاجر المادية بسبب قيود مكافحة الجائحة. ويقول تشو: “كان من الممكن أن يكون التأثير هائلاً، فمصنعي كبير للغاية، ولدي الكثير من العمال الذين يتعين عليّ دعمهم”.

ولكن لحسن الحظ، وجد تشو قنوات بيع أخرى. في عام 2018، أطلق بينديوديو (عملاق التجارة الإلكترونية الذي يستهدف المستهلكين المقيمين في المدن الصينية الصغيرة) مبادرة لربط الشركات المصنعة بالسوق المحلية. وبمقتضى نموذج جديد أُطلق عليه اسم “من المستهلك إلى المُصنّع” أو (C2M)، بدأت المنصة تستخدم مجموعاتها الضخمة من البيانات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، لمساعدة الشركات المصنعة الصينية على التنبؤ بتفضيلات المستهلكين، وتطوير علامات تجارية مخصصة للجمهور المحلي.

متجر تشو كاييو على منصة بينديوديو.

لم تُطلع بينديوديو الشركات المصنعة على كيفية إضفاء الطابع الشخصي على منتجاتها -حتى غسل الجينز أو طول الجوارب- فحسب، بل قدمت إليها أيضاً نصائح حول كيفية إعادة تصميم أغلفتها، وتحديد أسعارها، وتسويق بضائعها عبر الإنترنت. وبهذه الطريقة، أصبح بوسع الشركات المصنعة تحسين كفاءة إنتاجها، الأمر الذي جعل المنتجات أقل تكلفة بالنسبة للمستهلكين. كما يمكن للمنصات الاستفادة من المستخدمين الجدد لتحقيق أرباح من خلال الإعلانات. وقد ساعد هذا الأمر كلاً من المنصة والشركات المصنعة على حد سواء على الاستفادة من الطبقة الوسطى التي تمثل قاعدة استهلاكية سريعة النمو؛ ففي حين يهتم المستهلكون من الطبقة العليا بالعلامات التجارية الدولية بشكل أكبر، يتركز اهتمام هذه الموجة الجديدة من المستهلكين على المنتجات عالية الجودة ذات الأسعار المنخفضة.

عندما انتشرت الجائحة، سارعت بينديوديو إلى توسيع نطاق مبادرتها، وأضافت حوافز جديدة للشركات المصنعة المتضررة للانضمام إلى منصتها، كما دعتها لاستخدام خدمة البث المباشر (الرابط باللغة الصينية) الخاصة بها وتنظيم فعاليات ترويجية لمبيعاتها. وهكذا، انضم تشو إلى المنصة بالعلامة التجارية الخاصة به (水中 君) (shui zhong jun) -التي تعني: ملك الماء- لتعويض إيراداته الدولية المفقودة. واتبع توجيهات نموذج “من المستهلك إلى المُصنع”، وأطلق قناة بث مباشر. ويقول إنه اعتباراً من شهر مايو الماضي، بات بإمكانه بيع ما يصل إلى 25 ألف قطعة ملابس، عن طريق البث المباشر، في غضون بضع ساعات، بعد أن كان متوسط ما يبيعه لا يتعدى 1000 قطعة يومياً.

بدأ نموذج “من المستهلك إلى المُصنع” في الأصل كجزء من حملة أوسع نطاقاً أطلقتها هذه الشركات العملاقة لتحديث الصناعة التحويلية وجذب المزيد من المستهلكين إلى منصاتها، إلا أن هذا الاتجاه تسارع واتخذ معنى جديداً منذ بدء الحرب التجارية واندلاع الجائحة التي طال أمدها. ونظراً لأن وصول الصين إلى الأسواق الدولية بات أمراً لا يمكن الاعتماد عليه أكثر فأكثر -لا سيما مع احتمال تجدد المعركة التجارية الذي يلوح في الأفق- تسعى الدولة بشكل متزايد إلى تكثيف الاستهلاك المحلي في محاولة لتجنب المزيد من الركود الاقتصادي.

ويقول ديريك سيزورز، الباحث المقيم في معهد أميركان إنتربرايز، والمتخصص في السياسة التجارية والعلاقات الأميركية الصينية: “المشكلة تكمن في خسارة الصين للطلب [الخارجي]، لذا فإنها تريد استبداله بالطلب المحلي”.

وبالإضافة إلى بينديوديو، فإن شركات التجارة الإلكترونية الصينية العملاقة الأخرى -بما فيها تاوباو المملوكة لمجموعة علي بابا، وجيه دي (JD)- تقدم خدمات “من المستهلك إلى المُصنع”. ومنذ بداية العام الجاري، حددت الشركات الثلاثة أهدافاً جديدة لتوسيع مبادراتها. كما أن بينديوديو -التي ساعدت في إطلاق 106 علامات تجارية مملوكة للشركات المصنعة عام 2019- تهدف إلى إطلاق 1000 علامة تجارية أخرى، بالإضافة إلى أنها وقعت شراكة إستراتيجية، في شهر أبريل الماضي، مع حكومة دونغقوان، حيث يقع مقر مصنع تشو الذي يُعد أحد أكبر المراكز الصناعية في الصين.

وبالمثل، تعهدت تاوباو بالوصول بإنتاج 1000 شركة مصنعة، موزعة على 10 مجموعات من المصانع، إلى ما لا يقل عن 100 مليون يوان صيني (14 مليون دولار أميركي) لكل منها، في غضون الأعوام الثلاثة المقبلة. كما أطلقت، في مارس الماضي، تطبيقاً جديداً يُسمى “صفقات تاوباو” لعرض المنتجات ذات الأسعار المنخفضة، التي صممها شركائها في نموذج “من المستهلك إلى المُصنع”. وذكرت شركة جيه دي بدورها أنها ستوظف شركاء ينتشرون عبر أكثر من 100 حزام صناعي. وذلك بعدما أطلقت أيضاً في أبريل، مبادرة “التصدير إلى الداخل” من خلال تطبيقها الجديد “جينغكسي”، للسماح للشركات المصنعة بفتح متاجر جديدة على منصتها مجاناً، والاستفادة من خدمات التسويق والتوصيل والخدمات اللوجستية التي تقدمها.

ووفقاً لشركة أبحاث السوق آي ريسيرش، فقد حقق نموذج “من المستهلك إلى المُصنع” مبيعات بلغت قيمتها الإجمالية حوالي 17.52 مليار يوان صيني (2.5 مليار دولار) عام 2018. وتشير التقديرات إلى أن قيمة تلك المبيعات ستصل إلى 42 مليار يوان (5.9 مليار دولار) بحلول عام 2022.

ونظراً للنتائج الواعدة التي حققتها تلك الشراكات، فقد ضاعفت الشركات الصناعية أيضاً رهانها على الإستراتيجيات الخاصة بإطلاق علامات تجارية محلية. ومن ضمن هؤلاء تشين زويوي، وهو صاحب شركة تصنيع ألعاب يقع مقرها في مدينة شنغهاي بمقاطعة جوانجدونج، والذي انضم إلى برنامج “من المستهلك إلى المُصنع” الخاص بشركة جيه دي عام 2018. وبعدما ساعدته جيه دي على إضفاء الطابع الشخصي على منتجاته وتطوير إستراتيجية تسعير جديدة، نمت أعماله على المنصة سريعاً لتصل إلى 50% من مبيعاته المحلية. وعندما اندلعت الجائحة التي تسببت في تراجع قيمة صادراته بشكل حاد من 30% إلى أقل من 5% من إيراداته، اعتبر هذا الأمر إشارة لفتح متجرين جديدين على منصة جيه دي، وإطلاق المزيد من العلامات التجارية المحلية.

بيد أن ذلك لا يعني أن تشين سيتوقف عن العمل مع العلامات التجارية الأجنبية، حيث يقول: “بصفتي رجل أعمال، أفكر دائماً في كيفية التوسع في المزيد من الأسواق”. وإذا عادت الصادرات إلى طبيعتها، وجاء عملاؤه الأجانب يطرقون بابه، فسيواصل بكل سرور تلبية طلباتهم. لكنه في الوقت نفسه بات يعتبر أن العلامة التجارية التي أطلقها تمثل مصدراً مهماً للنمو والاستقرار. ويضيف: “خطتي هي توسيع وجودنا المحلي، وأرغب في زيادة استثماراتنا في هذا المجال خلال العام الحالي”.

ولم يتضح حتى الآن ما إذا كانت الأسواق المحلية وحدها ستتمكن من تعويض هذا التفاوت في قدرة الصين على الوصول إلى الأسواق الدولية على المدى الطويل. فمن ناحية، زادت الطبقة الوسطى في البلاد من قوتها الشرائية سريعاً، وتتوقع شركة آي ريسيرش أن يبلغ حجم السوق 1008 مليارات يوان صيني (141 مليون دولار) بحلول عام 2022. ولكن على الجانب الأخر، يشير سيزورز إلى أن الصناعة التحويلية كانت تعاني بالفعل من فائض كبير في العرض حتى قبل انتشار الجائحة، موضحاً أن الصين اعتمدت على الولايات المتحدة وغيرها من الأسواق الخارجية “للتخلص من فائض التصنيع”. ومن هذا المنطلق، فإنه غير مقتنع بأن نموذجاً جديداً مثل “من المستهلك إلى المُصنع” من شأنه أن يحل هذه النوعية من قضايا الاقتصاد الكلي الراسخة. بل يرى بدلاً من ذلك، أن هذا النموذج كان دفعة بارعة نفذتها شركات التجارة الإلكترونية العملاقة لتنمية أرباحها الخاصة.

ومع ذلك، يواصل الخطاب الصيني التشديد على ضرورة التركيز على السوق المحلي بصورة أكبر بمرور الوقت، وذلك مع سعي البلاد إلى تحقيق المزيد من الاكتفاء الذاتي في المجالين الاقتصادي والتكنولوجي. أما بالنسبة للمصنعين الأفراد مثل تشو، فقد عزز نموذج “من المستهلك إلى المُصنع” -بلا شك- إحساسه بالقدرة على التكيف. وإذا اعترضت طريقه المزيدُ من العوامل الخارجية التي لا يمكن التنبؤ بها، كاندلاع حرب تجارية أخرى، فسيستمر في الاستثمار في شراكته مع بينديوديو فحسب، ويقول: “سنحسن إنتاجنا ومنتجاتنا وقدرتنا على البحث والتطوير، وسنستمر في تأسيس علاماتنا التجارية”.