لماذا تعد السماعات “الطبية” الرقمية غير مثالية؟

4 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بالنسبة إلى شخص مثلي، جامع أسطوانات نهم يعاني من فقدان السمع، أرى أن العقد الماضي قد خلق تنافراً معرفياً حاداً نجم عن تطورين متناقضين. أولهما عودة أسطوانة “الفينيل”، وثانيهما اختفاء السماعات الطبية التماثلية. أُدرك أن الموسيقيين الصم في الغالب يقلدون الأصوات على نحو يشبه ما نراه في برنامج المشاهد الكوميدية “كيدز إن ذا هول” (Kids in the Hall)، لكنني لست وحدي في هذا، فهل حقاُ السماعات الطبية الرقمية غير مثالية؟ سأوضح لكم ذلك.

في العقد الأول من الألفية الثالثة، بدأ كبار المصنعين للسماعات الطبية البالغ عددهم ست شركات بالتخلص التدريجي من السماعات التماثلية (التي تحول الصوت إلى موجات كهربائية لتضخيمه) وانتقلوا إلى إنتاج السماعات الرقمية وبيعها بصورة شاملة. ومع تقدم عمر جيل “طفرة المواليد” الضخم، إلى جانب العدد المستقر للأفراد الذين يولدون بفقدان السمع الخلقي (مثل حالتي)، يحتاج مئات الآلاف من المستخدمين إلى سماعات طبية جديدة كل عام. من المتوقع أن تبلغ القيمة السوقية العالمية لهذه الصناعة 12 مليار دولار سنوياً في الأعوام الستة المقبلة، حيث ساعد الترويج للمزايا المفترضة للتكنولوجيا الرقمية الشركات المصنعة على التحكم في أسعارها وحصتها السوقية.

التحول في سوق السماعات الرقمية الطبية

جاء التحول في سوق السماعات الطبية في وقت يشهد فيه العالم تقديراً متجدداً لخصائص الصوت التماثلي، حيث شهدت أسطوانات “الفينيل” انتعاشاً كبيراً على مدى العقد الماضي. وقدرت “مجلة فوربس” أن المبيعات المجمعة للأسطوانات الجديدة والمستعملة في الولايات المتحدة الأميركية قد تجاوزت 700 مليون دولار في عام 2017 (وهو أحدث عام توفرت فيه بيانات كاملة). استمع ستيف جوبز، الذي عمل أكثر من أي فرد آخر على إضفاء الطابع العالمي للموسيقى الرقمية، إلى اسطوانات “الفينيل” بصورة حصرية. حتى أننا شهدنا عودة لأشرطة الكاسيت، إلا أن سوق السماعات الطبية ذهب في الاتجاه المعاكس.

قد توفر التكنولوجيا الرقمية مزايا في قدرتها على توسيع نطاق التكيف وفقاً للملف الطبي لكل فرد، بالإضافة إلى توفر الإعدادات المبرمجة للمواقف الاجتماعية المختلفة، إلى جانب تقنيات أخرى إضافية مثل البلوتوث وخيارات تعقب التطبيقات. لكن ما لا تستطيع فعله تلك السماعات هو إعادة إنتاج الصوت الطبيعي بدقة وبطريقة مرضية ومؤثرة وحقيقية على مستوى الفرد ذاته. وقد تذمر الموسيقي الأسطوري نيل يونغ منها قائلاً: “كسبنا القدرة على السيطرة، لكننا فقدنا الصوت.. لقد اختفى”. (وإذا كان أي مؤشر يمكن استنتاجه من هذه المقالة التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز له مؤخراً، فهو أنه لم يغير رأيه بأي شكل من الأشكال).

لا يعد هذا افتراءً ضد الفنيين والمهندسين الذين يصممون السماعات الطبية، إذ إنهم يواجهون ملايين السنين من التطور. ولا بد من ذكر أن السماعات التماثلية تعمل فقط على تضخيم الصوت الطبيعي – إنها بمثابة نسخة أكثر تطوراً من طبلة الأذن – بحيث لا يوجد انقطاع حقيقي للموجة الصوتية الأصلية. وعلى النقيض من ذلك، تلتقط السماعات الرقمية الصوت، وتعالجه لتحوله إلى معلومات رقمية ثنائية، ثم تعيد إنتاجه كموجة جديدة باستخدام محول رقمي تماثلي مدمج. وبالتالي، يجب أن تعيد السماعات الرقمية خلق التأثير الذي تشاركت أدمغتنا وآذاننا على تطويره عبر العصور لتأديته. من الغطرسة الاعتقاد أن بضعة عقود من البحث والتطوير لا تنطوي على أوجه من القصور.

أنا على دراية بالقيود التي تواجه تقنية السمع التماثلية القديمة، إذ إنها كانت عرضة للعديد من الملاحظات، ولم تتكيف دائماً مع الحالات السمعية المختلفة، مثل المطاعم المزدحمة أو القاعات الكبيرة التي تملؤها صوتيات رديئة. للتعويض عن ذلك، عاش مستخدمو تلك السماعات في عالم مشبع بالأصوات الطبيعية والغنية بالتفاصيل. لا يمكن لتقنية البلوتوث المضافة أو أجهزة التعقب العائدة لشركة “فيتبيت” (Fitbit) على سبيل المثال تغيير الحقيقة المتمثلة في أن المعالج الرقمي يأخذ عينات للأصوات الواردة بوتيرة أقل بكثير من تلك التي تأخذها مشغلات الأسطوانات القديمة، ما يجعل أولئك الذين يستخدمون تلك السماعات يشعرون بأن العالم بأسره مضغوط ضمن ملف “إم بي ثري” (MP3) عملاق. جميع الأصوات مثل أصوات الأطفال والأوراق المتساقطة، والطيور، قُدمت وأُعيد تشكيلها، بحيث أصبح مستخدم تلك السماعات يعيش في عالم اصطناعي بالكامل.

المفاضلة بين السماعات الرقمية أو التماثلية

بالنسبة إلى أولئك غير القادرين على التكيف، فإن تلك الأصوات تسبب الإزعاج الكبير. وتشير التقديرات في الواقع إلى أن ما يقرب من ربع مستخدمي السماعات الطبية في الولايات المتحدة الأميركية غير راضين إلى حد بعيد عن الصوت الناتج عن سماعات الأذن تلك. إن التمعن في الرسائل المتروكة على المنتديات عبر الإنترنت يعطي فكرة حول نطاق المشكلة، حيث تتراوح الشكاوى بقول أمور من قبيل: “لم يعد بإمكاني سماع صوت ابنتي كما في السابق” إلى “لا أسمع اللغة بالطريقة الصحيحة”.

يتمثل الحل المنطقي هنا في إتاحة حرية الاختيار للمستهلكين، أي السماح لهم بشراء السماعات الرقمية أو التماثلية (أو كليهما) وفقاً لتفضيلاتهم الشخصية، تماماً كما عادت صناعة الأسطوانات إلى بيع أسطوانات “الفينيل” إلى جانب القنوات الرقمية والملفات المنقولة. وبدلاً من ذلك، اختار مصنعو السماعات الطبية حرمان المستهلكين من هذا الاختيار، مع إصرارهم على عدم وجود مشكلات تستدعي الاهتمام في السماعات الرقمية. على حد تعبير الممثل الأميركي ريتشارد بريور، هذا التحرك يرقى إلى قول: مَن ستصدق، أنا أم أذنيك الكاذبتين؟

ضمن سياق ما تردده صناعة التسجيلات الصوتية قبل عقود، يروج مصنعو السماعات الطبية للتفوق المفترض للتكنولوجيا الرقمية، دون أن يوضحوا السبب على الإطلاق. تفضي القراءة المتمعنة للأدلة التي أمامنا إلى أن هذه الصناعة تعيد إنشاء الأخطاء القديمة، وقد يكون الأمر الباعث على السخرية هو أن التركيز على السماعات الرقمية قد سمح للمصنعين بالحفاظ على بيعها بأسعار مرتفعة للغاية، إذ يبلع سعر الجهاز الواحد حوالي 2,500 دولار في المتوسط، أي ضعف السعر تقريباً للزوج (مع العلم أن غالبية المستخدمين يحتاجون إلى زوج من السماعات).

على الرغم من أن تفاصيل تلك الصناعة غير واضحة تماماً، إلا أنه من المفهوم عموماً أن هوامش ربحها كبيرة، كما أن هناك ست شركات مصنعة تحتكر وتسيطر عملياً على السوق العالمية. في حال وجود سوق أكثر تنافسية، فمن المؤكد أنه سيشهد استعداد شركة واحدة على الأقل لتقديم سماعات تماثلية بتكلفة تقوض منافسيها.

قد تتمثل المشكلة في أنه من بين العشرات من مختصي السمع والفنيين الذين قابلتهم أو تحدثت معهم على مر السنين، لم يكن أحدهم يعاني من مشاكل في السمع، ولم أشاهد البتة أي بيان صحفي يذكر أن أحد المدراء التنفيذيين لتلك الشركات يعاني من تلك المشكلات. أعتقد أنه يمكنني القول إن الغالبية العظمى من المدراء التنفيذيين والاستشاريين والمهندسين وأخصائيي السمع يسمعون أنفسهم بالطريقة التماثلية. تفضيلهم للصوت الرقمي هي فكرة مجردة، إذ إنه لا يرتبط بفهم حقيقي لكيفية عمل الصوت في الدماغ البشري، لكنه يرتبط بمتطلبات التسويق والأرباح المالية.

لا أقصد القول هنا إن التكنولوجيا الرقمية لا تمنح أي فوائد، لكن تلك الفوائد ليست حاسمة لتبرر إلغاء السماعات التماثلية. وأولئك الذين لديهم ذاكرة حسية للسماعات التماثلية – وكذلك المستخدمين الجدد الذين لا يزالون غير راضين عن المنتجات الحالية – يدركون على نحو بديهي أنّ التكنولوجيا الرقمية غير قادرة على تقديم الصوت بطريقة تجعلنا نشعر بأننا ننتمي إلى هذا العالم.

لا يزال بإمكاني أن أتذكر بوضوح إحدى تجاربي الأخيرة قبل أن أبدل زوج السماعات التماثلية القديمة الخاصة بي إلى السماعات الطبية الرقمية، حيث كنت أشغل أسطوانات لأطفالي الذين كانوا يتراقصون عند سماعها في غرفة المعيشة، وكانت الأغنية الأخيرة التي استمعنا إليها تقول: “منزلي هو مكاني المفضل” ملائمة لما أسلفته على نحو شاعري.