الرؤية القاصرة لجون بيري بارلو

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ألهَم النشطاء للكفاح في سبيل الحرية الشخصية على الإنترنت؛ لكنه أدار ظهره للكفاح في سبيل العدالة. فماذا عن الرؤية القاصرة لجون بيري بارلو؟

من بين جميع الأماكن، اختار جون بيري بارلو، “المنتدى الاقتصادي العالمي” في دافوس، بسويسرا، ليكتب “إعلان استقلال الفضاء السيبراني” عام 1996. قد يُعتبَر هذا مكاناً غريباً لشاعر ومؤلف أغانٍ سابق لفرقة “جريتفول ديد” (Grateful Dead)، ليكتب وثيقة تأسيسية للنشاط الحقوقي على الإنترنت، ولكنه من ناحية أخرى كان مناسباً إذ ساعد بيان بارلو، والحركة التي أسّسها، في منحنا الإنترنت الديناميكية التي ننعم بها اليوم على الرغم من أنها في كثير من الأحيان ذات نظام مؤسسي مؤذٍ.

توفي بارلو يوم الأربعاء عن عمر يناهز 70 عاماً.* ونشرت “مؤسسة الحدود الإلكترونية” (Electronic Frontier Foundation)، وهي منظمة الحريات المدنية السيبرانية التي شارك في تأسيسها عام 1990، حيث كنت أعمل، منشوراً في مدونة مفاده بأنه توفي بهدوء خلال نومه. لقد ترك لنا إرثاً شكّل خريطة طريق للأشخاص الذين يناضلون في سبيل الإنترنت المفتوح. ولا تزال هذه المهمة غير مكتملة بعد. 

من هو جون بيري بارلو؟

كان بارلو أسطورياً بسبب ما يتمتع به من جاذبية ساحرة ومن دائرة أشخاص مميزين متحلقين حوله. لقد تعاطى عقار “إل إس دي” (LSD) مع تيم ليري، وكان لديه مزرعة في وايومنغ (Wyoming)، وفي السبعينيات شارك في حملة تؤيد وصول ديك تشيني إلى “الكونغرس”، على الرغم من أنه نبذ هذا السياسي بعد أن تفاهم مع جورج دبليو بوش.* كما أنه كان “زير نساء” بكل معنى الكلمة: “يعشقهن بلا حدود”. من بالغ الصعوبة أن تحيط بشخصية بارلو على وجه التحديد. لقد فوّت على نفسه فرصة دراسة الحقوق بجامعة “هارفارد”، ليختار بدلاً من ذلك السفر في أنحاء الهند، إلا أنه أصبح زميلاً فخرياً في “مركز بيركمان كلاين للإنترنت والمجتمع” (Berkman Klein Center for Internet and Society)، في كلية الحقوق بعد سنوات عديدة.

كان بارلو قد أعلن نفسه ليبرالياً، ولكن من خلال إنشائه “مؤسسة الحدود الإلكترونية”، أبدى إدراكه لضرورة العمل مع الحكومة، حتى لو لم يُكنّ لها الكثير من الإعجاب. ربما كان يحاول توضيح تلك المواقف المتعارضة ظاهرياً، من خلال كتابة بيانه الشهير بعد 6 سنوات، وقد أصبح هذا البيان بوصلة لعدد لا يحصى من النشطاء والمهندسين وغيرهم ممن يأملون في بناء مستقبل رقمي جديد لا حدود له يمكن لسكانه صياغة قواعدهم الخاصة، دون سيطرة الحكومة عليها. وهو يبدأ بمقدمته الشهيرة:

يا حكومات العالم الصناعي، أيتها العمالقة البائسة المصنوعة من لحم وفولاذ، لقد جئتكم من الفضاء الإلكتروني، المنزل الجديد للعقل. وبالنيابة عن المستقبل، أطلب منكم بحق الماضي أن تتركونا وشأننا. أنتم غير مرحب بكم بيننا. ليس لديكم أي سيادة حيث نجتمع.

ركّز بارلو على الأضرار التي تنجم عن فرض الإشراف الحكومي على انفتاح الإنترنت، وليس على الأضرار التي قد تفرضها الشركات بعيداً عن اللوائح الحكومية.

كان هذا الموقف استفزازاً وسخرية مهينة لهيئات إنفاذ القانون وواضعي السياسات على حد سواء، وقد عبّر عن الرؤية الجوهرية لـ “مؤسسة الحدود الإلكترونية” التي تعتبر أن هؤلاء الأشخاص النافذين لا يفهمون الفضاء السيبراني أساساً، ولذلك يلزم أن تكون هناك منظمة تدافع عن حماية الحقوق الدستورية على الإنترنت. ولقد كان على صواب. إذ تنتقل المعلومات عبر الإنترنت بطرق تتناقض مع الأشكال التقليدية للاتصال حيث يمكن إعادة إنتاج ملف رقمي بحرية كاملة، ويمكن لمجموعة من الناس بناء شركات ضخمة جديدة دون أن يتبادلوا أي حديث مباشر أو أن يجمعهم لقاء شخصي، يمكن بناء عوالم جديدة واختراق عوالم قديمة وتدميرها، كل ذلك دون أن يغادر أي شخص كرسي مكتبه. كتب بارلو “تستمد الحكومات سلطاتها العادلة من موافقة المحكومين. وأنتم لم تطلبوا موافقتنا، ولكنكم تحصلون عليها. لم نوجه لكم أي دعوة أيتها الحكومات. أنتم لا تعرفونا ولا تعرفون عالمنا. إن الفضاء الإلكتروني يقع خارج حدودكم تماماً”.

كان تركيز بارلو على الأضرار التي قد تلحق بانفتاح الإنترنت بسبب الحكومة، لكنه تجاهل الأضرار التي قد تسببها الشركات، بعيداً عن اللوائح الحكومية. وقد كان هذا الإطار الأساسي الذي شكل إلى حد كبير حركة الناشطين في قضية انفتاح الإنترنت على مدى السنوات العشرين الماضية.

وعلى مدى عقود من الزمن، وجّه العديد من الذين يحاربون وجود الإشراف على العالم الرقمي في الولايات المتحدة جهودهم في المقام الأول على الإشراف الحكومي، وليس إشراف الشركات، على الرغم من أنهما متداخلان إلى حد كبير. وفي الوقت نفسه، بينما كان الناشطون في سبيل الحقوق الرقمية يضغطون لعقود، ولكن دون جدوى، للحد من نطاق وحجم إشراف الحكومة الوطنية، فقد نمت شركات الإنترنت لتتحول إلى قوى إشراف هائلة من تلقاء نفسها، دون الكثير من اللوائح أو الإشراف الحكومي، كما أنها كانت حرة في التلاعب فيما نعرف، وكيف نشعر، وأدّت إلى زيادة تفاقم أوجه عدم الإنصاف لصالح منصات إعلاناتها النمطية.

وبينما تتالت الالتماسات التي تدعو الحكومة إلى كبح جماح سلطاتها الرقابية، لم نسمع عن التماسات مماثلة تطالب الحكومات بتنظيم شركات الإنترنت بحيث تقلل من البيانات التي تجمعها وتحمي خصوصية الأشخاص الذين يعتمدون على منصات تلك الشركات سواء للبقاء مطلعين على المستجدات السياسية، أو القيام بأعمال تجارية، أو التواصل مع أصدقائهم وأحبائهم دون التعرض للتلاعب الخطير والتجريب غير العادل من قبل الشركات. ما ذُكر هو نتيجةٌ لتصوّر الشبكة المفتوحة على أنها تضم بعض أعظم القوى المسؤولة في العالم.

برنامج التجسس التابعة لـ “وكالة الأمن القومي”

في عام 2013، كشف إدوارد سنودن، عن تفاصيل برامج التجسس السرية لـ “وكالة الأمن القومي”، ما سلّط الضوء بشكل غير مسبوق على صلاحيات المراقبة الشاملة الرقمية للحكومة الأميركية، والتي لم تكن ممكنة إلا من خلال التعاون مع شركات التكنولوجيا الأميركية. وبعد كشفه لهذه التفاصيل، ركّز الناشطون الحقوقيون في مجال الإنترنت داخل الولايات المتحدة اهتمامهم إلى حد كبير على إصلاح “وكالة الأمن القومي”. وقد استفادوا من شكاوى مهمة ومحقّة تفيد بأن مخالفة البيانات الرقمية التابعة للوكالة انتهكت الدستور.

وعلى الرغم من أن الكثيرين حاولوا تشتيت الانتباه لينصبّ على كيفية تعرّض بعض المجتمعات للمراقبة الشاملة أكثر من غيرها، فقد تركز الاهتمام بشكل عام على كيفية إضرار الرقابة الحكومية بالحقوق الدستورية الأساسية، وكان الاهتمام أقل لكيفية تجسس الدولة على المجتمعات المتضررة. وعلى الرغم من أن سنودن جعل المراقبة الرقمية تتصدر العناوين الرئيسية وأتاح الفرصة لبناء ما كان يُعتبر حركة شاقة للخصوصية الرقمية، فإن القوانين التي ناضل نشطاء الإنترنت لإلغائها وإصلاحها لم تتغير حقاً منذ الكشف الذي أجراه سنودن، ولا يبدو أن الأميركيين أصبحوا أكثر اهتماماً في محاربة المراقبة مما كانوا عليه قبل أن يسلّط سنودن الأضواء على المهمة التجسسية لربّ عمله السابق. إذ لم تظهر حركة واسعة الانتشار، وربما تكون الفرصة قد ضاعت الآن.

وإذا عدنا بنظرنا إلى الوراء الآن، علينا أن نتساءل عما إذا كان سبب ذلك هو الأولويات المجردة لتلك الحركة، الأمر الذي لم يسلّط الضوء بما فيه الكفاية على المخاطر التي يعاني منها السكان المهددون بتلك الرقابة، فضلاً عن محاولات الكشف عن تجاوزات المراقبة التي تمارسها الشركات الكبرى. اعتبر المدافعون الذين لطالما كانوا يناضلون في سبيل الإصلاحات على صعيد الإنترنت قبل سنودن أن بارلو هو البوصلة لهم، لذا نادراً ما نراهم يحيدون عن مساره.

هذا لا يعني أنه لم يكن هناك بعض الانتصارات المهمة، مثل حالة انضمام عمالقة الإنترنت، مثل “جوجل” و”فيسبوك” إلى المستخدمين للنجاح في محاربة قانوني مكافحة القرصنة وحقوق التأليف والنشر، المعروفين باسم “سوبا” (SOPA) و”بيبا” (PIPA)، اللذَين أرادت شركات الترفيه الكبيرة تمريرهما ليُعتمدا؛ كان من شأن هذين القانونين إغلاق مواقع كاملة اعتماداً على رسوم غبية متعلقة بحقوق الطبع والنشر والتي كانت من المحتمل أن تغير طبيعة الإنترنت الحالية تماماً.

وقبل بضعة سنوات فقط، كان هناك انتصار “الحياد الكامل”، والذي، قرعت من خلاله، مرة أخرى، بعض الشركات الضخمة في مجال الإنترنت مثل “نتفليكس” (Netflix) ناقوس الخطر مع مستخدميها لمنع مزودي خدمة الإنترنت من فرض رسوم على المواقع للوصول إلى المستخدمين بسرعات أعلى. وعلى الرغم من أن لجنة الاتصالات الفدرالية قد ألغت هذا النصر مؤخراً، فإنه لا يزال يُعتبر نصراً كبيراً في مجال ناشطي الحقوق على الإنترنت. وجدير بالذكر، أنه دفع إلى زيادة الأنظمة الحكومية على شبكة الإنترنت، بدلاً من التقليل منها، على النحو الذي دعا إليه بارلو بثبات.

مفهوم الأمن السيبراني لدى جون بيري بارلو

يملأ فقدانُ البصيرة القلبَ بحزن عميق وهكذا كان حال بارلو بالتأكيد. لقد كان من بين أوائل الأشخاص الذين نجحوا في إثبات رأيهم بأن “الإنترنت أمر يستحق النضال من أجله”. وحتى لو كان مفهومه للفضاء السيبراني دون رقابة حكومية – بحيث أنه كما عبّر هو شخصياً “فضاءٌ يمكن أن يدخله الجميع دون امتيازات أو تحيز ضد عرق أو قوة اقتصادية أو قوة عسكرية أو مكان ولادة” و”مكان حيث يمكن لأي شخص في أي مكان أن يعبّر فيه عن معتقداته، بغضّ النظر عن غرابتها، دون خوف من إجبارهم على الصمت أو التماشي مع الآخرين” – إلا أن هذا التصور لم يثمر في التحول إلى واقع ملموس، ولكنه لا يزال ينعش أي شخص يحارب من أجل الوصول بشبكة الإنترنت إلى واقعٍ أفضل اليوم.

وفي نهاية الحديث عن الرؤية القاصرة لجون بيري بارلو، ترافق عدم ارتياح بارلو للوائح التنظيمية مع الشعور المبكر بأن الإنترنت سوف تغير العالم (وبالتالي ينبغي أن يحميها الناس الذين يستخدمونها من سطوة الحكومات) مما ساعد على الأرجح في إرساء الأساس للنمو المشوّش لنفوذ الشركات التي تعزل نفسها عن محيطها كما نراها اليوم – حيث تاهت الصحافة في دهاليزها المكونة من الأخبار المزيفة وتراجعت فرص نجاح الشركات الناشئة الجديدة في المنافسة. لا يسعني إلا أن أسأل عن الصورة المحتملة للواقع لو منحَنا رواد فكرة الشبكة المفتوحة رؤيةً مختلفة تقرن الإصرار على ضرورة الدفاع عن الفضاء الإلكتروني مع الاهتمام بالعدالة وحقوق الإنسان والإبداع المفتوح، عوضاً عن التركيز في المقام الأول على الحرية الشخصية. لو أنهم فعلوا ذلك، فأيّ نوع من الإنترنت كان لنا أن ننعم به اليوم يا تُرى؟