ما الذي سيبقى معنا من مكونات الحياة عن بعد التي فرضها علينا كوفيد-19؟

7 دقائق
الحياة عن بعد
حقوق الصورة: ستوديو رومانتيك/ شتر ستوك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أدى وباء كوفيد-19 إلى تقليص عالمنا بحيث لا يتعدّى جدران منازلنا. ولكن مع بقائنا في منازلنا، استمر العمل حول العالم، إذ قمنا بعقد اجتماعات والخروج في مواعيد والاحتفال بالعطلات ولقاء الأصدقاء. فما هو الفارق الوحيد إذن؟ لقد قمنا بكل ذلك من وراء الشاشات لقد عشنا الحياة عن بعد بكثير من النواحي.

يكاد يكون من المستحيل تخيّل قائمة لأهم 10 تقنيات غيّرت العالم في عام 2021 دون التفكير بمدى انتقالنا إلى ممارسة حياتنا عبر الإنترنت. كان الوباء بمثابة دورة مكثفة حول ما يمكننا إنجازه عن بُعد عندما يتعين علينا القيام بذلك. كما كشف أيضاً عن جوانب الحياة التي تتأثّر بشكل أكثر من غيرها عندما نتعامل معها بطريقة افتراضية فقط.

وعلى الرغم من حدوث تغيّرات في كل المجالات، فقد كان لتلك التغيّرات في مجالي الرعاية الصحية والتعليم بشكل خاص تأثيرات هائلة على صحة الناس ونوعية حياتهم بشكل عام. ففجأةً أصبحت الأدوات التي تعتمد على الإنترنت مثل تطبيق زوم بمثابة أدوات أساسية ومهمة بالنسبة للكثيرين. إلا أن التغيير الأكثر أهمية كان في سلوكياتنا ولم يكن في التكنولوجيا بحدّ ذاتها، إذ يتم عقد الاجتماعات وتقديم الخدمات الطبية عن بُعد منذ فترة طويلة.

فما الذي نجح وما الذي لم ينجح؟ وما الذي سيظل وما الذي سيزول؟ وما الذي تعلمناه ليساعدنا في الاستعداد بشكل أفضل للمستقبل؟ نسلط الضوء في هذا المقال على التطورات التي حدثت في آسيا وإفريقيا، والتي يمكن أن تعطي مثالاً عن باقي أنحاء العالم.

اقرأ أيضاً: العمل عن بعد: كيف تسجل مكالمات الفيديو في زوم وسكايب وميت وتيمز وويبكس؟

التعلّم عبر الإنترنت

في ذروة الوباء في شهر أبريل 2020أُجبرت المدارس على الإغلاق في أكثر من 170 دولة، مما أثر على نحو 1.6 مليار طفل. ونظراً لأن التعليم التقليدي أصبح افتراضياً في معظم أنحاء العالم، فقد شهدت آسيا اتجاهاً مشابهاً تمثّل في زيادة الطلب على بعض الخدمات مثل تلك التي تقدمها شركة سناباسك للتعليم عبر الإنترنت، والتي تتخذ من هونغ كونغ مقراً لها.

يوجد لدى شركة سناباسك الآن أكثر من 3.5 مليون مستخدم في تسع دول آسيوية، وهو ضعف العدد الذي كان عليه قبل الوباء. ويقول تيموثي يو، الذي أسس الشركة في عام 2015: “ما استغرق منا خمس سنوات لتحقيقه حققناه في عام واحد بسبب وباء كوفيد”.

وذكرت شركات تكنولوجيا التعليم الأخرى في المنطقة تحقيق نمو مماثل. إذ شهد تطبيق بايجوس التعليمي، والذي يمثّل ثاني أعلى الشركات الناشئة قيمةً في الهند، ارتفاعاً في عدد مستخدميه بمقدار الثلث إلى نحو 70 مليوناً، وذلك عندما وفّر تطبيقه مجاناً بعد إغلاق المدارس في جميع أنحاء البلاد في شهر مارس من عام 2020. وعندما قامت منصة يوانفيوداو الرائدة في مجال التعلم عبر الإنترنت في الصين بالشيء نفسه في أوائل عام 2020، تعرّض نظامها للأعطال بسبب الضغط، إذ قام أكثر من 5 ملايين شخص بالتسجيل.

ولطالما حظيت الدروس الخصوصية بشعبية كبيرة في الصين وفي دول آسيوية أخرى مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، حيث يتلقى ثمانية من كل 10 طلاب في المرحلة الابتدائية دعماً من خارج المدرسة. وقد أدى الوباء إلى رفع مستوى خدمات التدريس عبر الإنترنت، التي سرعان ما أصبحت جزءاً روتينياً للطلاب كما كانت فصولهم الدراسية المقررة.

لم تكن العديد من المدارس مستعدة للتحوّل إلى التدريس الافتراضي، وخاصةً في المراحل الأولى من الوباء. ساعد المعلّمون عبر الإنترنت في سدّ الثغرات التعليمية وتمكّنوا من التركيز بشكل أكبر على الاحتياجات الفردية للطلاب. أسّس يو شركته اعتماداً على فكرة “المساعدة عند الطلب”، حيث يمكن للطلاب أخذ صورة لسؤال من واجب منزلي يواجهون صعوبة في حلّه، وتحميله عبر تطبيق المراسلة الشهيرة واتساب في أي وقت من اليوم، والحصول على المساعدة من أحد مدرّسي شركة سناباسك، البالغ عددهم 350 ألفاً، خلال 30 ثانية.

وتقول وي تشانغ، الأستاذة في جامعة إيست تشاينا نورمال في شنغهاي التي تبحث في مجال التدريس الخاص، إن مثل هذه الخدمات غالباً ما تكون أكثر ملاءمةً بالنسبة للآباء والأمهات من التعليم الافتراضي. وقد أمضتْ العام الماضي وهي تبحث في كيفية تأثير الوباء على الآباء والأمهات والطلاب وشركات التدريس عبر الإنترنت في الصين واليابان والدنمارك.

إحدى الشكاوى الشائعة التي سمعتْها عن التعليم الافتراضي هي أنه كان يتعيّن على الوالدين “مساعدة أطفالهما في تسجيل الدخول إلى غرف الصفوف وإصلاح المشاكل الفنية والاستجابة للمعلمين والإشراف على الواجبات المنزلية”. وكانت خدمات التدريس عبر الإنترنت أكثر بساطةً بكثير.

وتحتوي العديد من منصات التدريس، بما فيها سناباسك وبايجوس، على مكتبات كبيرة تضم مقاطع فيديو تعليمية مليئة بالرسوم المتحركة ذات الألوان الزاهية والمؤثرات الخاصة والأصوات. وتقول زانغ: “بالنسبة للأطفال، فإن هذا الأمر يجعل الدروس أكثر متعةً وتفاعليةً”.

ومع ذلك، تمثّل عدم المساواة عائقاً كبيراً أمام توسيع نطاق التعليم الافتراضي والتعليم عبر الإنترنت. فعلى سبيل المثال، لا تتوافر إمكانية الاتصال بالإنترنت إلا لدى 56% فقط من الناس في إندونيسيا، وذلك وفقاً لإحصاءات عام 2019. وحتى في البلدان الأغنى مثل كوريا الجنوبية، حيث يمكن لـ 99.5% من السكان الاتصال بالإنترنت، اضطرت الحكومة إلى التدخل وإعارة الحواسيب للطلاب ذوي الدخل المنخفض.

وفي الوقت نفسه، يربط التدريس عبر الإنترنت الطلاب في المناطق الأقل نمواً بمدرّسين أفضل من مناطق متحضرة. وقد يكون هذا هو السبب على الأرجح في تمسّك بعض الطلاب في المدن الصغيرة في الصين بذلك حتى مع عودة المدارس إلى طبيعتها، كما تقول تشانغ. كما أنه يوفر على الآباء والأمهات عناء نقل أطفالهم من أماكن تواجد المدرسين الخصوصيين وإليهم.

وعلى الرغم من أن الدروس الخصوصية لا تحظى في كل مكان بالشعبية الكبيرة التي تحظى بها في آسيا، فإن النمو الحاصل في التدريس عبر الإنترنت بسبب فيروس كورونا يعدّ بمثابة تذكير في حينه للجميع بأن الطلاب يتعلمون بشكل أفضل عندما يكون التدريس مصمماً وفقاً لاحتياجاتهم وعندما يقومون بدور فعّال في عملية التعلم. من الدروس الأخرى المهمة للمضي قدماً أنه ينبغي تشجيع المعلمين على التفكير بشكل مختلف والتدريس بطرق جديدة، كما يقول ستيف ويلر، الأستاذ الزائر في جامعة بليموث في المملكة المتحدة، والذي يبحث في التدريس والتعلم عن بعد. إذا تمكنت الأنظمة المدرسية من تبني ما نجح في التدريس عبر الإنترنت، أي اعتماد وسائط جديدة وتعديل المحتوى التعليمي بما يتناسب معها، “فهناك جانب مشرق وسط الظلام”، كما يقول.

اقرأ أيضاً: مستقبل العمل عن بعد: من خيار ضرورة إلى خيار مستدام

الرعاية الصحية عن بُعد

قبل عقد من تفشي الوباء، توصل ديفيس موسينغوزي إلى فكرته الكبيرة المتمثلة بنظام يسمح للناس في أوغندا بإرسال رسائل نصية إلى رقم هاتف مجاني وجعْل طبيب يعاود الاتصال بهم لتقديم الاستشارة. بالنسبة للكثيرين، بدت هذه الفكرة متهوّرة، لكن موسينغوزي، الذي كان آنذاك طالباً في كلية الطب في العاصمة كمبالا، كان مقتنعاً بأنها ستنجح.

وفي عام 2012، شارك موسينغوزي في تأسيس مجموعة ميديكال كونسيرج جروب، الأمر الذي يقرّ الآن بأنه كان “مبكراً جداً”، إذ لم يكن يمتلك هواتف محمولة في أوغندا في ذلك الوقت سوى أقل من نصف السكان.

وعلى مدى سنوات، توسّع ذلك الجهد ليشمل رسائل فيديو ورسائل واتساب، ومجموعة من كوادر الرعاية الصحية الذين يركبون الدراجات النارية ويزورون منازل المرضى لإجراء اختبارات الدم وتقديم الأدوية. كما امتدت المجموعة إلى كينيا ونيجيريا أيضاً.

وعندما بدأ الوباء في عام 2020، ارتفع عدد المستخدمين إلى 10 أضعاف بين شهري مارس ونوفمبر. ويقول موسينغوزي: “كان وباء كوفيد-19 عاملاً في تغيير قواعد اللعبة”. فقد حدث ازدياد مماثل في استخدام الخدمات الطبية عن بُعد على مستوى العالم. ويضيف قائلاً: “في جميع أنحاء العالم، لا توجد شركة أعرفها في مجال التطبيب عن بُعد إلا وشهدت ارتفاعاً في الطلب، فضلاً عن تغيّر في عقلية المستهلكين وتحوّلها نحو التطبيب عن بُعد”.

إن شيوع الرعاية الصحية عن بُعد ليس بالأمر المستغرَب. فقد كانت استشارات الفيديو والاستشارات الهاتفية عن بُعد آخذة بالازدياد أصلاً. غالباً ما يحدث التغيير ببطء في مجال الرعاية الصحية، لكن وباء كوفيد-19 غذّى هذا الاتجاه و”جعله أكثر ازدياداً”، كما يقول أليكس جاداد، مؤسس مركز جامعة تورنتو للابتكار العالمي في مجال الصحة الإلكترونية.

دفع الوباء المستشفيات في جميع أنحاء العالم إلى مرحلة الانهيار، وابتعد المرضى عنها إما بدافع الخوف أو لأنهم اضطروا إلى ذلك. واتجّه الكثير منهم إلى التطبيب عن بُعد. فعلى سبيل المثال، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين يلجؤون إليه في الولايات المتحدة من 11% في عام 2019 إلى 46% في العام الذي يليه، وذلك وفقاً لشركة ماكنزي. وهناك درس أو اثنان من أوغندا ومن البلدان النامية الأخرى للمشاركة حول الرعاية الصحية عن بُعد، والتي تطورت بدافع الضرورة في منطقة يندر فيها الأطباء في كثير من الأحيان. ويقول موسينغوزي: “يتواجد في إفريقيا نحو 10% من سكان العالم و25% من إجمالي الأمراض في العالم. ومع ذلك، لا يوجد هناك سوى حوالي 3% فقط من أطباء العالم. لذلك أعتقد أن التطبيب عن بُعد يتناسب تماماً مع هذا الوضع المحيّر”.

وكما هو الحال مع التعليم عن بُعد، غالباً ما تتطلب الرعاية الصحية عن بُعد توافر إنترنت بسرعة عالية، والذي لا يتوفر دائماً بسهولة في دول العالم النامي. لكن انتشار الهواتف المحمولة يتجاوز الآن 80% في رواندا وكينيا ونيجيريا وبعض الأجزاء الأخرى من إفريقيا.

يدير أيوش ميشرا، أحد مؤسسي شبكة تاتفان، عيادات إلكترونية في 18 مدينة هندية. تعمل شبكة تاتفان، التي تعني “حماية الحواس الخمسة” باللغة السنسكريتية، بنموذج غير اعتيادي للرعاية الصحية عن بُعد. فهي تعتمد عيادات إلكترونية مكونة من غرفة واحدة أو غرفتين في القرى، بحيث تكون مجهزة بأجهزة كمبيوتر وشاشة كبيرة. ويمكن للمرضى مراجعتها لاستشارة الطبيب المحلي أو التحدث إلى أخصائي من منطقة بعيدة إذا لزم الأمر.

واستجابةً لوباء كوفيد، أطلقت شبكة تاتفان أيضاً في شهر أكتوبر خدمة عن بُعد عبر الهاتف المحمول، حيث يتنقّل مسعفون يحملون حقائب ظهر محمّلة بمعدات عبر الدراجات النارية لزيارة المرضى في القرى النائية.

يعتقد ميشرا أن هذا النموذج من التطبيب عن بُعد، أي النموذج الوسط بين المراكز الصحية التقليدية واستشارة الطبيب عبر تطبيق، سوف يسود في النهاية على النموذج الأخير. ويقول: “إن الثقة هي العامل الأكبر” عندما يتعلق الأمر بالتطبيب عن بُعد، ووجود “طبيب محلي في المركز هو بمثابة ضمان للثقة”.

وعلى الرغم من ازدياد الاستشارات عن بُعد، يتوقع ميشرا أن يكون هذا الازدياد مؤقتاً. ويقول إن الأمور بمجرد أن تبدأ بالانفراج، فإنه يتوقع انخفاضاً تدريجياً في الطلب.

أعتقد أن هذا هو الشيء الوحيد الذي سيرافقنا بعد وباء كوفيد-19، وهو أننا سنجعل حياتنا تتمحور حول منازلنا”.
كما أن التطبيب عن بُعد لا يعدّ كافياً بالتأكيد في جميع الحالات. وتقول آن بلاندفورد، أستاذة التفاعل بين الإنسان والحاسوب في جامعة كوليدج لندن: “أعتقد أننا تعلّمنا الكثير عن المجالات التي يمكن أن تنجح فيها الاستشارات عن بُعد مع زيادة الكفاءة، ولكننا تعرفنا أيضاً على المجالات التي لا يمكن أن تنجح فيها بشكل جيد”. وهناك خبراء آخرون أكثر حماساً، إذ يقول موسينغوزي: “ما رأيناه هو أن 70% من الزيارات الروتينية لمرضى العيادات الخارجية يمكن التعامل معها من خلال التطبيب عن بُعد والمختبرات الطرفية وخدمات توصيل الأدوية”.

اقرأ أيضاً: جوجل تطلق موقعاً وقناة على يوتيوب للتعليم عن بعد باللغة العربية

إلى أين تتجه الحياة عن بعد من الوضع الذي نحن فيه؟

لا شك في أن الوباء قد جعل الكثير من الناس أكثر قدرةً على استخدام كل من وسائل الرعاية الصحية والتعليم عن بُعد. ولن يزول ذلك على الأرجح. سينتهي الوباء، لكن عاداتنا والأشياء التي نفضلها قد تطورت منذ بدايته.

وعلى الرغم من أن الخدمات عن بُعد لن تنجح في التعامل مع كل الفحوصات أو الدروس، إلا أنه يمكنها أن تجعل حياة الناس أسهل وأفضل في كثير من الحالات. لقد كان الوباء بمثابة اختبار إجهاد لهذه الخدمات، وقد أثبتت بدورها قدرتها على تقديم الكثير مما نحتاجه، في أي وقت وأي مكان. ومع انقضاء أيام بقائنا في منازلنا، ستستمر حياتنا على الإنترنت بشكل أكثر مما قد نتوقعه.

ويقول موسينغوزي: “ما فعله وباء كوفيد-19 هو جعل الناس يدركون أن بإمكانهم الآن الاعتماد على الخدمات التي تصل إليهم وهم في منازلهم، سواءً كانت التسوق أو الرعاية الصحية. أعتقد أن هذا هو الشيء الوحيد الذي سيرافقنا بعد وباء كوفيد-19، وهو أننا سنجعل حياتنا تتمحور حول منازلنا”.