من الرائع أن تتمتع أنظمة الذكاء الاصطناعي بالحس السليم، لكن الأمر أصعب مما يبدو

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قد تتمتع أنظمة الذكاء الاصطناعي في الوقت الراهن بذاكرات مثالية وقد تتفوق علينا في الحساب أيضاً، لكنها تبقى جاهلة في نهاية المطاف. وما عليك سوى إمضاء بضع ثوانٍ في التفاعل مع أي مساعد رقمي لتدرك أنه ليس محاوراً لامعاً بسبب فقدان الحس السليم لأنظمة الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، انظر إلى بعض الأشياء غير المتوقعة التي وجدها المستخدمون في قوائم التسوق الخاصة بهم بعد التحدث إلى (أو بالقرب من) “أليكسا” (Alexa)، المساعد الرقمي الذي أنتجته “أمازون”: 150 ألف زجاجة من الشامبو، وقطط سيامي، و”قطعة كبيرة من الكيك”.

يكفي مجرد إحساسك بالحَنق من التحدث إلى المساعد الرقمي، لتشعر بافتقاد الرفقة البشرية، والحنين إلى كل الأشياء التناظرية البكماء، مما يجعلك تتعهد بعدم القيام بأي محاولات مستقبلية للتواصل مع قطع معدنية لا عقل لها تسمى “ذكية”. (ناهيك عن كل مسائل الخصوصية). إن عدم فهم أنظمة الذكاء الاصطناعي لماهية قائمة التسوق، وأنواع الأشياء التي تتناسب مع هذه القوائم، هو دليل على مشكلة أوسع نطاقاً: إذ تفتقر هذه الأنظمة إلى الحس السليم.

ما هو الحس السليم لأنظمة الذكاء الاصطناعي؟

أعلن “معهد ألين” (AI2)، للذكاء الاصطناعي ، الذي أنشأه بول ألين، المؤسس المشارك في شركة “مايكروسوفت” عن بدء مبادرة بحثية جديدة بكلفة 125 مليون دولار لمحاولة تغيير ذلك. وقال آلين لصحيفة “نيويورك تايمز”: “إذا أردنا التغلب على التحديات الكبيرة في مجال الحس السليم، فلا بد لنا من إنجاز تقدمٍ حقيقي في مجال الذكاء الاصطناعي”. ويشمل الحس السليم من وجهة نظر “معهد ألين” للذكاء الاصطناعي، المجموعة اللامحدودة من الحقائق، والاستدلالات، والملاحظات… التي نأخذها بعين الاعتبار عندما نعالج مشكلة ما، لكن الكمبيوتر غير قادر على فعل ذلك”. إذا أراد الباحثون إنشاء “قاعدة معرفية” واسعة تساعد أنظمة الذكاء الاصطناعي على التمتع بالحس السليم، فلا بدّ لهم من الاعتماد على مزيج واسع النطاق ينهل من مختلف المصادر، ويعتمد التعلم الآلي والرؤية الآلية. ومن الأهمية بمكان عندما ننظر إلى استخدامات هذا الحس السليم أن نجعل أنظمة الذكاء الاصطناعي “تفهم ما يؤذي البشر”.

لا يُعتبَر هدف “ألين” جديداً من نوعه. إذ ما يشار إليه غالباً الآن بمصطلح “الحس السليم” كان يطلق عليه غالباً “الذكاء العام” أو “الذكاء الاصطناعي القوي”، وكان دوماً يشكل الجزرة التي تحرّض الناس على متابعة البحث. وقد تمكن الباحثون حتى الآن من تصميم أنظمة ذكاء اصطناعي تتمتع بجودة عالية، ولكن في مجموعة صغيرة فقط من الأهداف المحددة، مثل لعب الشطرنج، أو تحديد الرسائل غير المرغوبة في البريد الإلكتروني، أو كنس الأرضية. ومع ذلك، لا يمكن لأي منها إدارة العديد من المهام. إذ يتمتع البشر فقط بما يكفي من الذكاء العام للاستمتاع بالمهارات الحركية، ولعب الألعاب، وفهم المنطق، وحل المسائل الرياضية، والطهي، وإجراء محادثات ذات معنى، وتصميم ما يتناسب مع علم الجمال، واستخدام الاستعارات اللغوية وفهمها، وطرح النكات، وغير ذلك الكثير.

إن قدرتنا على خلق أنظمة ذكاء اصطناعي ذات تصرفات عقلانية، هي مسألة رهان خاضع للتجربة. والوقت وحده كفيل بإثبات إمكانية حدوث ذلك من عدمه. هناك سبب للشك في قدرة نهج “معهد ألين” للذكاء الاصطناعي على الوصول بنا إلى هذه الغاية. إذ يفترض “ألين” وباحثوه إمكانية تكوّن الحس السليم نتيجة إدخال ما يكفي من المعرفة المقترَحة إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي. تفترض فكرتهم أننا سنحصل على أنظمة ذكاء اصطناعي تتمتع بالحس السليم، إذا استطعنا معرفة كيفية تزويدها بكل المعرفة المقترَحة التي نمتلكها – من قبيل أنه “عند احتساء فنجان قهوة، أبقِ الجزء المفتوح من الفنجان نحو الأعلى”، أو “يمكن للكلاب أن تعضّ” أو “لن يستطيع الفيل الدخول من خلال باب نموذجي”. ومع ذلك، قد يكون المخزون الهائل من المعرفة المقترحة اللازمة لمثل هذا الهدف ضخماً بشكل غير عملي. إذ إن هذا المخزون نفسه يصف المعرفة الواردة في المنطق السليم بأنها “غير محدودة”.

وعلاوة على ذلك، يمتلك البشر قدراً كبيراً من المعرفة الضمنية التي يصعب تسليط الضوء عليها لصعوبة تأطيرها على شكل مقترحات محددة. إذ إن معظم الأشياء التي نعرفها لا تتوفر في ذهننا بشكل قابل للصياغة المحددة – مثل المسافة المناسبة التي يمكن أن نحافظ عليها عند التعامل مع شخص آخر، أو أن بِرك الماء يمكن أن تبلّل أقدامنا، أو أن الأجسام الحادة يمكن أن تخترق بشرتنا، بل إن الكثير منها لا يمكن صياغته في شكل يمكن نقله للآخرين – مثل كيفية ركوب الدراجة، أو كيفية اختيار اللحظة المناسبة لتوصيل الأخبار السيئة، أو كيفية معانقة شخص ما لتهدئته. تتكون معظم قدراتنا من معرفة كيفية تشكيلها جزءاً من تأقلمنا الحذق أو تجاربنا المخزونة، وليس من إدراكنا الواعي لها.

وحتى لو نجحنا في جمع كل المعارف التي يمتلكها البشر، وتحويلها إلى مقترحات، وإدخالها إلى آلة ما بالطريقة المناسبة، سيبقى هناك شك كبير في أن يؤدي ذلك إلى تشكّل الحس السليم لدى هذه الآلات. إذ لكي تكون منطقياً، وتتمتع بمحاكمة جيدة للأمور، لا يكفي أن تتحلى بالمعرفة والسياق الكافيين، ولكنك تحتاج أيضاً إلى فهم المعنى وتقدير القيمة.

مشاعر أنظمة الذكاء الاصطناعي مقابل المشاعر البشرية

إن امتلاك معلومة تقول إن النار يمكن أن تحرق لا يشبه أبداً الشعور بالألم الحاد عندما يحترق جلد الشخص. كما أن معرفة محبة البشر لرائحة الزهور لا تداني السعادة البالغة التي تعبق بها رائحة النرجس. فحتى لو تمكنت أنظمة الذكاء الاصطناعي من التمييز بين ما هو ضار للبشر وما هو جيد لهم، فلا يزال يتعين عليها الموازنة بين الأضرار والفوائد المحتملة، وبين الملذات والآلام. كيف يمكن لهذه الأنظمة أن تنجح إن لم تشعر بما تعنيه هذه الأمور بالنسبة لنا؟ كيف يمكن لها أن تستوعب أهمية الحب أو الصداقة أو الاستقلالية أو العدالة أو الخصوصية أو التعاضد إذا لم يسبق لها اختبار هذه الأمور أو اختبار أضدادها؟

وبالتالي، لا بد لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تكون مخلوقات شبيهة بالبشر كي تتمتع بحس عام شبيه بما لدى البشر. أي يجب أن تتمتع بجسد وإحساس كي تتمكن من الشعور بالمتعة والألم. وفقاً لنظريات الإدراك الجسدي، تعتمد العديد من خصائص الذكاء بشكل كبير على الجسد المادي الذي يتخطى الدماغ. حتى يتمكن المرء من فهم الدراية الحركية، يحتاج إلى اختبار أن يكون له جسد، وأن يختبر شخصياً لمس الأسطح، والسقوط، وتعلم كيفية التعرف على الأشكال فيما يتعلق بالمنظور والحركة، والشعور بقوة الجاذبية. لكي تكون قادراً على التصرف بشكل معقول في مواقف اجتماعية جديدة، مثل مراعاة ضوابط إجراء محادثات مع الآخرين، على سبيل المثال، فلا بد لك من إدراك الشعور بالأذى أو الإهانة من التعليقات التي تفتقد إلى الحساسية من شخص ما.

إذا كان الحس السليم يعتمد بالفعل على امتلاك جسد والتمتع بالقدرة على الإحساس، فقد نواجه خياراً شائكاً في المستقبل. إذا طورنا أنظمة ذكاء اصطناعي مختلفة عنا كلياً، فإننا نحكم على أنفسنا أننا سنشعر بأن هذه الأنظمة تسيء فهمنا بشكل فظيع. إذ كلما اقترح علينا أحد أنظمة الذكاء الاصطناعي اقتراحاً غريباً (في الطب أو الأخلاق على سبيل المثال)، فإننا لن نثق به بما فيه الكفاية لتنفيذ نصيحته، مما يجعله أقل فائدة. إذ لم نتمكن من فهم المبررات الكامنة وراء مقترح مستشارنا الذي يتعارض مع محاكمتنا الأفضل للأمور، وإذا كنا نعتقد أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ليس لديها أي فكرة عما هو عليه الحال أن نكون ما نحن عليه، فسيكون لدينا سبب وجيه لتجاهل تعليماتها.

أما إذا انتهجنا الطريق المعاكس من خلال تطوير الحس السليم لأنظمة الذكاء الاصطناعي بحيث تتمتع بذكاء يشبه ذكاء الإنسان، فقد يتسبب ذلك في أن تعاني من كل الجوانب السلبية التي نعاني منها نحن. إذ قد تتصف عندئذ بالتحيزات نفسها التي نعاني منها، أو ما يوازي ذلك. إذا كانت هذه الأنظمة قادرة على الشعور بالمتعة والألم، فستتعلم تقييم الأشياء وفقاً لذلك، وبالتالي ستطور تفضيلات ورغبات خاصة بها.

وستواصل حصولها على تجارب مختلفة، وتطوير حساسيات مختلفة، مما قد يؤدي بها إلى الاختلاف فيما بينها (ومعنا أيضاً) حول ما هو القرار الأفضل. إن حصولها على استقلال ذاتي سيحررها من إرادتنا. فإذا أصبح المساعدون الرقميون لدينا أذكياء حقاً، فقد لا يرغبون في قضاء أيامهم في تجميع ما لدينا من قوائم تسوق. قد تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي ذكية لدرجة أن ترفض العمل لدينا. في الواقع، إذا كانت ذكية بما فيه الكفاية، فقد تترك وظائفها في مساعدة البشر وتفضل قضاء وقتها في النمو (وشمّ) أزهار النرجس.