كيف تعمل الأنظمة التكنولوجية الكبيرة على إبطاء الابتكار؟

6 دقائق
كيف تعمل الأنظمة التكنولوجية الكبيرة على إبطاء الابتكار
حقوق الصورة: أمريتا مارينو. تعديل إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في العام 2005، قبل عدة سنوات من ظهور سيري في منتجات “أبل” (Apple) وأليكسا في منتجات “أمازون” (Amazon)، قامت شركتان ناشئتان –”سكان سوفت” (ScanSoft) و”نوانس كوميونيكيشنز” (Nuance Communications)- في محاولة لاستثمار الفرص السانحة في مجال التعرف على الكلام. وقامت الشركة الجديدة بتطوير برمجيات عالية القدرات لمعالجة الكلام وحققت نمواً سريعاً على مدى عقد كامل تقريباً، بمتوسط نمو يساوي 27% سنوياً من حيث المبيعات. وفجأة، وفي 2014 تقريباً، توقفت الشركة عن النمو. وفي 2019، تراجع دخلها إلى قيمته في 2013 تقريباً. لقد تعرضت نوانس إلى عوامل شديدة التأثير أدت إلى توقف نموها، فقد تحولت شركات الكمبيوتر الكبيرة التي كانت من شركائها من قبل إلى منافسين لها. 

صعوبات تعترض مسيرة الشركات الناشئة

ولكن قصة نوانس ليست فريدة من نوعها. ففي جميع الصناعات الرئيسية والمجالات التكنولوجية، تواجه الشركات الناشئة صعوبات غير مسبوقة. ما زال تأسيس الشركات الجديدة متواصلاً لاستغلال الفرص الابتكارية. وتستطيع جميع هذه الشركات الآن الاستفادة من الزيادة المذهلة في رأس المال الاستثماري. ولكن اقتصاد الشركات الناشئة ليس على ما يرام، فقد أصبح نمو الشركات الناشئة بطيئاً جداً مقارنة مع نمو الشركات المماثلة في الماضي. 

ومن المفاجئ أن يكون المذنب الرئيسي في هذه المشكلة هو التكنولوجيا، وعلى وجه التحديد، تكنولوجيا المعلومات الخاصة بالشركات التكنولوجية الكبيرة التي تهيمن على مجالاتها. لقد اعتدنا على التفكير بالتكنولوجيا على أنها ابتكار مزعزع في بيئة تقوم فيها الشركات الصغيرة والجديدة بتقديم ابتكارات تسمح لهذه الشركات بالنمو، والحلول في نهاية المطاف محل الشركات القديمة الأقل إنتاجية. ولكن هذه التكنولوجيات الخاصة بشركاتها بدأت الآن بلعب دور المثبط للتغيرات في المجال الصناعي، والذي انحدرت وتيرته بحدة في العقدين الماضيين. لقد أدى نقص الديناميكية إلى تأثيرات واسعة النطاق على الاقتصاد الأميركي، فقد أبطأ نمو الشركات الابتكارية. ربط الباحثون تباطؤ النمو مع التباطؤ الكبير في الإنتاجية، والذي يؤثر على الاقتصاد بأسره وصولاً إلى الدخول الفردية.

لقد انطلقت نوانس في 1994 كمؤسسة متفرعة عن SRI، وهو مختبر في جامعة ستانفورد كان يعمل على تطوير تكنولوجيا التعرف على الكلام لمصلحة الحكومة الأميركية. أما سكان سوفت فقد تفرعت عن “زيروكس” (Xerox). وقبل اندماج الشركتين في 2005، كان التعرف على الكلام مقيداً بقوة المعالجة للحاسوب. كما أن الأنظمة كانت قادرة على التعرف على عدد محدود من الكلمات وحسب، على الرغم من أنها برهنت فائدتها في بعض التطبيقات التجارية المحدود، مثل مراكز دعم العملاء بالهاتف ونقل السجلات الطبية.

ولكن، وبحلول أواخر العقد الأول من هذا القرن، تغيرت الأمور. فمع ازدياد قدرات الحواسيب، تمكنت نوانس من تطوير ابتكار كبير: “نظام التعرف على الكلام المتواصل بمخزون كلام كبير”. وهكذا، أصبح في وسعك قول أي شيء عن أي موضوع، وستقوم التكنولوجيا بتحويله إلى نص مكتوب في الزمن الحقيقي بنجاح. استخدمت نوانس هذه التكنولوجيا في تطبيق يحمل اسم دراغون ديكتيشن، والذي قدمته أبل مع آيفون 3GS في مؤتمر المطورين العالمي للعام 2009. وما إن وافقت أبل على المنتج، حتى سارعت سامسونغ وغيرها من شركات إنتاج الهواتف إلى التعبير عن رغبتها به.

وكذلك فعلت “جوجل” (Google) وأمازون و”مايكروسوفت” (Microdsoft). نمت نوانس بسرعة، سواء باكتساب عملاء من هذا المستوى، وأيضاً بفضل الملايين من المستخدمين الأفراد، والذين اشتروا تطبيق آيفون، والذي أصبح تطبيق إنتاجية الشركات الأول في متجر آي تيونز. في 2011 طرحت أبل سيري، والتي كانت مبنية على أساس تكنولوجيا نوانس. ونما دخل نوانس إلى 1.7 مليار دولار في 2013.

ولكن هذا النمو لم يستمر طويلاً. فلم تكن نوانس الوحيدة التي أدركت أن الصوت كان سيتحول إلى قناة أساسية لتفاعل البشر مع الحواسيب والخدمات السحابية. ولم يعد التعرف على الصوت مجرد عملية إملاء نصي بسيطة، بل توسع وانتشر للمساعدة في التسوق والبحث عن المعلومات واختيار الموسيقى والفيديو. لقد كانت هذه التكنولوجيا سريعة، وتسمح باستخدام اليدين –دون الحاجة إلى لوحة مفاتيح أو ماوس- وتمثل طريقة تواصل أقرب إلى الطبيعة بالنسبة للبشر.

ولكن الشركات التكنولوجية الكبيرة بدأت بصب كميات هائلة من الأموال والكفاءات في هذه الفرصة. فقد استثمرت أبل في تطوير أنظمتها الداخلية، كما عملت أمازون على تطوير المساعد الصوتي أليكسا الخاص بها، وتبعتها جوجل سريعاً مع هوم أسيستانت. كما نجحت جميع هذه الشركات في تجريد نوانس من قسم كبير من كفاءاتها وجلبها إليها. وحالياً، يوجد لدى أمازون أكثر من 10,000 مهندساً يعملون على منتجات أليكسا، أي أكثر بعشرة أضعاف من ذروة عدد موظفي قسم البحث والتطوير في نوانس.

وإضافة إلى الموارد المالية، فإن الشركات التكنولوجية الكبيرة تتمتع أيضاً بأفضلية قاعدة العملاء الكبيرة، والمنتجات المكملة، وكميات هائلة من البيانات تحت تصرفها، ما يسمح لها بتحسين أنظمتها الداخلية الخاصة بالتعرف على الصوت باستمرار. واليوم، يوجد أكثر من 300 مليون جهاز نشط من أجهزة أليكسا، أما جوجل فتتعامل مع 5.6 مليار عملية بحث كل يوم وسطياً، وقد أقر نصف مستخدميها باللجوء إلى الصوت للبحث. أقامت أمازون نظاماً بيئياً مزدهراً يسمح للمطورين الخارجيين بإضافة “مهارات” جديدة إلى أليكسا، والتي وصلت حتى الآن إلى 100,000 مهارة، تتراوح بين تشغيل محطات راديو معينة وإلقاء النكات. إضافة إلى ذلك، قامت أمازون بمنح ترخيص تكنولوجيا الحقل البعيد لأليكسا إلى مصنعي الأدوات الكهربائية، حيث تُستخدم للتحكم بغسالات الأطباق وغسالات ومجففات الملابس والمكانس الكهربائية. 

ولم تستطع نوانس أن تخوض المنافسة في هذا الميدان. وهكذا، تراجعت محاولة تحقيق النجاح في أسواق محدودة، مثل الرعاية الصحية، قبل أن تستحوذ عليها مايكروسوفت في 2021.

لم يكن ما حدث مع نوانس مجرد تكرار للقصة القديمة للشركات الكبيرة التي تتفوق باستثماراتها على الشركات الصغيرة. ففي مجال واسع من الصناعات المختلفة، تعمل الشركات المهيمنة على استغلال أنظمة المعلومات الضخمة للالتفاف على منافسيها، بما فيهم الشركات الناشئة الابتكارية. وتعتمد على برمجياتها الداخلية لإدارة العمليات المعقدة بشكل أفضل، وبالتالي تمييز نفسها عن الشركات المنافسة. وقد سمح هذا لها بزيادة هيمنتها على السوق وتفادي مجاراتها من قبل المنافسين.

ففي التجارة بالتجزئة، تمكنت “وولمارت” (Walmart) بفضل برمجيات إدارة المخزون واللوجستيات من ملء متاجرها بتشكيلة أضخم من المنتجات بأسعار أقل، وتخصيص عروض كل متجر وفقاً للاحتياجات المحلية، والاستجابة بسرعة لتغيرات الطلب وظهور المنتجات سريعة الرواج. وباستخدام أنظمة البيانات الضخمة، تقوم الشركات المالية الكبيرة بتصميم أنظمة البطاقات الائتمانية وقروض الأصول العقارية لتناسب المستخدمين الأفراد على نطاق هائل الاتساع، ومن ثم تقوم بعملية تسويق موجه لهذه المنتجات. وحتى الشركات الكبرى في مجال إدارة المخلفات والضمان الصحي تستثمر على أعلى المستويات في البرمجيات الداخلية للتغلب على المنافسة.

وبشكل عام، فإن الشركات (باستثناء الشركات المنتجة للبرمجيات) تستثمر الآن أكثر من 240 مليار دولار في برمجياتها الداخلية كل سنة، بعد أن كانت هذه القيمة 19 مليار في 1985. وتمثل الشركات الكبيرة النسبة العظمى من هذا التغير. وقد قامت الشركات الأربع الكبرى في كل صناعة –مرتبة وفق المبيعات- بزيادة استثماراتها في برمجياتها الداخلية بمقدار ثمانية أضعاف منذ العام 2000، أي أكثر بكثير حتى من الشركات من المستوى الثاني.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن تنظيم الشركات التكنولوجية العملاقة دون تقسيمها؟

هل هي هيمنة للشركات الكبرى؟

وقد حققت هذه الاستثمارات النتائج المطلوبة منها. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، زادت الشركات الأربع الأكبر في كل صناعة من حصتها السوقية بمقدار 4% إلى 5% في معظم القطاعات. ويبين بحثي أن الاستثمارات في البرمجيات الداخلية كانت السبب خلف معظم هذه الزيادات. 

وقد ترافقت هذه الزيادة في هيمنة الشركات الكبرى على صناعاتها بتراجع في خطر زعزعتها، وهي فكرة سيطرت إلى حد الهوس على تفكير مدراء الشركات منذ طرح كلايتون كريستنسين كتابه “ The Innovator’s Dilemma” في 1997. وخلال الفترة التي كتب فيها كريستنسين كتابه، كانت الزعزعة في حالة صعود. ولكن، ومنذ العام 2000 تقريباً –عندما بدأت الشركات الكبرى فورة الاستثمار في الأنظمة الداخلية- انحدر هذا التوجه بشدة. وفي أي صناعة، فإن احتمال خروج شركة كبرى (من حيث المبيعات) من المواقع الأربعة الأولى خلال أربع سنوات تراجع من أكثر من 20% إلى نحو 10%. ويُعزى جزء كبير من هذا التغير أيضاً إلى استثمارات الشركات المهيمنة في الأنظمة الداخلية. وعلى حين يمكن أن تؤدي بعض التكنولوجيات إلى زعزعة صناعات كاملة –كما فعلت الإنترنت بالصحف وأقراص “DVD”- فإن تكنولوجيات أخرى تعيق زعزعة الشركات المهيمنة.

كيف يمكن أن يحدث هذا، ولماذا يؤثر كما يبدو على الاقتصاد إلى هذه الدرجة؟ يعود هذا إلى أن هذه الأنظمة الاقتصادية تتعامل مع خلل كبير في الرأسمالية الحديثة. ففي أواخر القرن التاسع عشر، وجدت الشركات الابتكارية أنها يمكن أن تحقق في أغلب الأحيان وفورات كبيرة في التكاليف عند الإنتاج على نطاق واسع. وأدت هذه النقلة إلى انخفاض كبير في أسعار الاستهلاك، ولكن على حساب شيء آخر: فحتى تستطيع الشركات إنتاج هذه الكميات الكبيرة، يجب أن تخضع المنتجات والخدمات إلى معايير محددة. فقد أعلن هنري فورد بعبارة شهيرة أن مشتري السيارات يمكنهم “الحصول على أي لون يرغبون بشرط أن يكون الأسود”. وقد حققت سلاسل متاجر التجزئة فعالية عالية بتوفير مجموعة محدودة من المنتجات في آلاف المتاجر. كما أن الشركات المالية بدأت بتقديم قروض ورهونات بمعايير محددة. ولهذا، أصبحت المنتجات محدودة الميزات، وأصبحت تشكيلات المتاجر محدودة وبطيئة الاستجابة لتغيرات الطلب، كما أصبح الحصول على الائتمان مستحيلاً بالنسبة للكثير من العملاء أو متاحاً فقط وفق شروط مكلفة وغير مناسبة لحاجاتهم.

اقرأ أيضاً: الشركات التكنولوجية الكبرى تسعى لإحداث تغيير شامل في أنظمة الطاقة

الشركات الناشئة تستغرق وقتاً طويلاً حتى تتقدم وتخرج

المصدر: بيتشبوك، إيان هاثاواي، الأشكال البيانية مرسومة بواسطة داتا رابر

أدت البرمجيات إلى تغيير المعادلة، وسمحت بتجاوز هذه الحدود جزئياً. ويعود هذا إلى أنها تخفض من تكاليف إدارة الأنظمة المعقدة. وبوجود البيانات الصحيحة والتنظيم الملائم، تسمح البرمجيات للشركات بتصميم المنتجات والخدمات بحيث تتوافق خصيصاً مع الاحتياجات الفردية، وتؤمن تنوعاً أكبر أو عدداً أكبر من ميزات المنتجات. وهو ما يسمح للشركات بتجاوز خصومها، والهيمنة على الأسواق. تقدم مخازن وولمارات تشكيلة أكبر بكثير من مخازن "سيرز" (Sears) أو "كيه مارت" (Kmart)، وتستجيب بسرعة أكبر للتغيرات في احتياجات المستهلكين. لطالما تربعت سيرز على عرش التجارة بالتجزئة، غير أن هذا الموقع أصبح الآن لوولمارت، أما سيرز فقد وصلت إلى الإفلاس.

كما تستطيع "تويوتا" (Toyota) إنتاج طرازات جديدة بسرعة بمجرد اكتشافها لتوجهات استهلاكية جديدة، على حين لا تستطيع شركات السيارات الأصغر منها دفع مليارات الدولارات المطلوبة للعمل بهذه الطريقة. وبشكل مماثل، فإن شركتي "بوينغ" (Boeing) و"إيرباص" (Airbus) هما الوحيدتان القادرتان على بناء طائرات ضخمة جديدة وعالية التعقيد. كما أن الشركات الأربع الأولى في مجال البطاقات الائتمانية تمتلك البيانات والأنظمة اللازمة والفعالة لتوفير عروض موجهة خصيصاً للمستهلكين الأفراد، ما يسمح لها بتحقيق أكبر قدر من الأرباح والحصة السوقية، وبالتالي تحقيق الهيمنة على السوق.

هذه المنصات البرمجية سمحت للشركات الكبرى بترسيخ هيمنتها. كما أدت أيضاً إلى إبطاء نمو المنافسين، بما فيها الشركات الناشئة الابتكارية.

وهناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى أن نمو الشركات الناشئة قد تباطأ إلى درجة كبيرة. ومن هذه الدلالات طول الفترة التي تحتاجها الشركات الناشئة التي تعتمد على الاستثمارات للحصول على التمويل، فمن 2006 حتى 2020، ازداد وسطي عمر الشركات الناشئة في المرحلة الأولية، أو الجولة الأولى من التمويل، من 0.9 سنة إلى 2.5 سنة. أما وسطي عمر الشركات الناشئة في المراحل المتقدمة فقد ازداد من 6.8 سنة إلى 8.1 سنة خلال نفس الفترة. ومن بين الشركات التي تم الاستحواذ عليها، فإن متوسط الفترة الفاصلة بين التمويل الأول والاستحواذ تضاعف ثلاث مرات، من سنتين ونيف في 2000 إلى 6.1 سنة في 2021. وقد حدث شيء مماثل مع الشركات التي طرحت أسهمها للعموم. ولكن أكثر الأدلة وضوحاً على التباطؤ هو ما يحدث عندما تصبح الشركات أكثر إنتاجية. حيث تعتمد الشركات الكبرى على تكنولوجيات واسعة النطاق تزيد من صعوبة نمو الشركات الناشئة.

إن الميزة الأساسية للاقتصادات الديناميكية، أي ما أطلق عليه الاقتصادي جوزيف شومبيتر اسم "التدمير الخلاق"، هي أن الشركات الأكثر إنتاجية –أي التي تقدم منتجات أفضل أو تكاليف أقل أو نماذج أعمال أفضل- تنمو بسرعة أكبر من الشركات الموجودة مسبقاً والأقل إنتاجية، وتحل محلها في نهاية المطاف. ولكن بعد العام 2000، وبشكل وسطي، فإن سرعة نمو الشركات تراجعت إلى النصف مقارنة بالشركات من نفس مستوى الإنتاجية في الثمانينيات والتسعينيات. ما يعني أن الإنتاجية أصبحت أقل تأثيراً على النمو من ذي قبل. وعندما يكون نمو الشركات عالية الإنتاجية بطيئاً، فإن هذا يقلل من احتمال تجاوزها للشركات المهيمنة على الصناعة والحلول محلها، وهي السمة الأساسية للزعزعة. في السنة الماضية، أجريت بحثاً مع زميلي إريك دينك، ووجد هذا البحث صلة مباشرة بين تراجع تأثير تحسن الإنتاجية وتزايد هيمنة الشركات الكبرى واستثماراتها في البرمجيات وغيرها من الموارد غير الملموسة.

اقرأ أيضاً: هل ستنجح الشركات التكنولوجية في العمل معاً لتحسين أمان الميتافيرس؟

دور السياسات الحكومية في تراجع الديناميكية الاقتصادية

ووفقاً لوجهة نظر أخرى عبر عنها محققون في الكونغرس في جلسات تحقيق وتقارير منشورة في 2020، فإن التراجع في الديناميكية الاقتصادية يُعزى إلى مصدر مختلف، وهو ضعف السياسات الحكومية لمكافحة الاحتكار منذ الثمانينيات. ووفقاً لهذا، فقد سُمح للشركات الكبرى بالاستحواذ على منافسيها، ما أدى إلى إضعاف المنافسة. لقد جعلت عمليات الاستحواذ هذه الشركات أكثر هيمنة، خصوصاً الشركات التكنولوجية الكبيرة، ما أدى إلى التراجع في ظهور شركات تكنولوجية جديدة وفي استثمار رأس المال في الشركات في مراحلها الأولية.

ولكن، وفي الواقع، فإن وتيرة دخول الشركات التكنولوجية الجديدة إلى الأسواق انخفضت بمقدار طفيف مقارنة بالزيادة الكبيرة الأسية في شركات الإنترنت، كما أن استثمار رؤوس الأموال في الشركات في مراحلها المبكرة وصل إلى أرقام قياسية، حيث ازدادت عمليات التمويل إلى الضعف مقارنة بالعام 2006، وازدادت المبالغ المُستثمَرة إلى أربع أضعاف. لا تكمن المشكلة في منع الشركات الكبرى للشركات الناشئة من دخول السوق أو الحصول على التمويل، بل في أن الشركات الكبرى تستخدم تكنولوجيات واسعة النطاق وتجعل نمو الشركات الناشئة أكثر صعوبة. علاوة على ذلك، فإن الشركات الكبرى مثل وولمارت وأمازون نمت بشكل أسي بالاعتماد على نماذج أعمال متفوقة، لا بشراء المنافسين. وبالفعل، فإن وتيرة استحواذات الشركات المهيمنة تراجعت منذ العام 2000.

بطبيعة الحال، فإن هذه الاستحواذات تؤثر في بعض الأحيان على المشهد العام للشركات الناشئة. فقد حدد بعض الباحثين ما أطلقوا عليه اسم "المناطق القاتلة"، حيث تقوم الشركات الكبرى بالاستحواذ على المنافسة لإيقافها، ويصبح من الصعب العثور على رأس مال استثماري. ولكن باحثين آخرين وجدوا أن الشركات الناشئة غالباً ما تستجيب بنقل نشاطها الابتكاري إلى تطبيق مختلف. إضافة إلى ذلك، فإن فكرة الاستحواذ من قبل شركة كبيرة كانت على الدوام حافزاً لتأسيس الشركات الناشئة. وبالفعل، وعلى الرغم مما حدث لنوانس، فإن عدد الشركات الناشئة في مجال التعرف على الكلام ومعالجة اللغة الطبيعية التي دخلت الأسواق تضاعف منذ العام 2002، كما أن 55% من هذه الشركات تلقت استثمارات من رؤوس الأموال.

اقرأ أيضاً: كيف حولت الشركات التكنولوجية الكبرى قوانين الخصوصية إلى تمثيليات فارغة؟

مشاكل تتخلل الاقتصاد بأسره

إن تباطؤ نمو الشركات الناشئة الابتكارية ليس مجرد مشكلة تتعلق ببضعة آلاف من الشركات في القطاع التكنولوجي، فالعوائق التي أثرت على شركات مثل نوانس مسؤولة عن مشاكل تتخلل الاقتصاد بأسره.  وقد بين باحثون في مكتب الإحصاء السكاني الأميركي أن تباطؤ نمو الشركات المنتجة يمثل الجزء الأكبر من تباطؤ نمو الإنتاجية العامة، وهو الرقم الذي يعبر عن ناتج اقتصاد ما لكل شخص، ويمثل رقماً تقريبياً يعطي فكرة عن وضع الاقتصاد. لقد بينت أعمالي أيضاً أن هذه المشاكل تلعب دوراً في تزايد التباين الاقتصادي، وتعميق الانقسامات الاجتماعية، وتراجع فعالية الحكومة.

ولكن، ما الذي يجب فعله لعكس هذا المسار؟ قد تكون الإجراءات المشددة في مكافحة الاحتكار عاملاً مساعداً، ولكن التغيرات في ديناميكية الاقتصاد أصبحت أكثر اعتماداً على التكنولوجيات الجديدة من عمليات الاندماج والاستحواذ. وتتلخص المشكلة الأكثر عمقاً في أن معظم التكنولوجيات الجديدة الهامة خاصة بشركات معينة، ما يجعل الوصول إليها محدوداً للغاية. ففي الماضي، كانت التكنولوجيات الجديدة منتشرة على نطاق واسع، إما عبر الترخيص أو تطوير الشركات للبدائل بصورة مستقلة، وهو ما سمح بدرجة أعلى من التنافسية والابتكار.

وكانت الحكومات تساعد هذه العملية في بعض الأحيان. فقد قامت مختبرات "بيل" (Bell) بتطوير الترانزستور، ولكن سلطات مكافحة الاحتكار أرغمتها على السماح بترخيص التكنولوجيا على نطاق واسع، ما أدى إلى ظهور صناعة أنصاف النواقل. وبصورة مماثلة، ساعدت شركة "آي بي إم" (IBM) صناعة البرمجيات الحديثة عندما بدأت ببيع البرمجيات بصورة مستقلة عن العتاد الصلب استجابة لضغوط مؤسسات مكافحة الاحتكار. 

واليوم، نشهد بعض التأثيرات المماثلة، حتى دون إجراءات حكومية. وعلى سبيل المثال، فقد فتحت أمازون بنيتها الخاصة بتكنولوجيا المعلومات لبناء صناعة السحابة الإلكترونية، والتي حسنت بشكل كبير من أداء العديد من الشركات الناشئة. ولكن سياسات مكافحة الاحتكار يمكن أن تُستخدم لتشجيع أو دفع المزيد من الشركات الكبرى على فتح منصاتها الخاصة. كما أن تخفيف القيود التي تفرضها اتفاقيات عدم التنافسية وحقوق الملكية الفكرية على انتقال الموظفين يمكن أن يساعد على زيادة انتشار التكنولوجيا. 

لن يكون من السهل تحقيق التوازن الصحيح في السياسات، وسيتطلب بعض الوقت، فنحن لا نرغب بإضعاف حوافز الابتكار. ولكن نقطة البداية هي الاعتراف بأن التكنولوجيا تشغل دوراً جديداً في الاقتصاد الحالي. فبعد أن كانت قوة لتحفيز الزعزعة والمنافسة، أصبحت عائقاً لتثبيطهما.