لماذا نرسل الموسيقى إلى خارج كوكب الأرض؟

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

توافد عشرات الآلاف من الأشخاص في كل صيف على مدار الـ 25 عاماً الماضية إلى مدينة برشلونة في إسبانيا، لمشاهدة مهرجان “سونار” (Sónar)، وهو مهرجان لمدة 3 أيام مخصص للموسيقى الإلكترونية والفن والتصميم. إنه أشبه بحدث يجمع بين مؤتمر “تيد” (TED talk)، ومهرجان “الرجل المحترق” (Burning Man)، ومهرجان “كوتشيلا” فالي للموسيقى والفنون (Coachella)، وقد تطور المهرجان من تجربة صغيرة إلى حدث وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” في عام 2017 بأنه “مؤسسة أوروبية“. إنه يمثل أيضاً أقرب شيء حاولنا من خلاله التواصل مع خارج كوكب الأرض. فماذا عن تجربة الموسيقى خارج كوكب الأرض؟

الموسيقى في الفضاء

للاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والعشرين لمهرجان “سونار” في 2018، عقد المهرجان شراكة مع “معهد كاتالونيا لدراسات الفضاء” (Catalonia Institute for Space Studies)، ومؤسسة “ميتي إنترناشونال” (METI International)، وهي مؤسسة غير ربحية، لإرسال سلسلة من الرسائل بين النجوم إلى نجم “لويتن” (Luyten’s star)، وهو قزم أحمر، ويبعد حوالي 12 سنة ضوئية من الأرض. على الرغم من أن الأقزام الحمر هي أكثر الأجسام النجمية شيوعاً في مجرتنا، إلا أن نجم “لويتن” يعدّ استثنائياً لاستضافته كوكب “جي جاي 237 بي” (GJ237b)، وهو أقرب كوكب يمكن أن يكون صالحاً للحياة خارج نظامنا الشمسي. لا أحد يعرف على وجه اليقين ما إذا كان كوكب “جي جاي 237 بي” مأهولاً، سواء أكان من قبل كائنات ذكية أم غير ذلك، ولكن إذا تواصلت المخلوقات الفضائية مع كوكب الأرض، فسوف يكون “مهرجان “سونار” قد حقق شيئاً عظيماً.

على مدار عدة ليالٍ في أواخر عام 2017 وأوائل عام 2018، أرسلت شبكة رادار موجودة في مدينة ترومسو، في النرويج، رسالة مخصصة من مهرجان “سونار” نحو كوكب “جي جاي 237 بي”. مثل أي مراسلات جيدة، بدأت الرسالة بتحية، وفي هذه الحالة، تكرر أول 33 عدداً أولياً في ترددين من ترددات الراديو المتناوبة، وكانا بمثابة بديل لـ “مرحباً”، وتبع ذلك درس تعليمي موجز، يأمل فيه مصممو الرسالة أن ذلك سوف يعلّم الكائنات الفضائية استخلاص الموسيقى المكتوبة من قبل الموسيقيين المنضمين إلى مهرجان “سونار” والمدمجة في الرسالة.

يبلغ طول كل أغنية في رسائل المهرجان بضع ثوانٍ فقط، ويمكن تسميتها بالموسيقى بالمعنى الضيق للكلمة. أنشئ أحد المسارات من خلال تغذية الخوارزمية بالموسيقى والسماح لها بإعادة مزج الدرجات الموسيقية كما تجدها مناسبة، ما تنج عن ذلك صوت يشبه المؤثرات الصوتية لأفلام الرعب، ويستخدم آخر الأعداد الذرية لعدد من جزيئات الأكسجين والسليكون وعناصر أخرى بمثابة ترددات للنغمات الصافية. لا تسهّل هذه الترتيبات الاستماع إلى الموسيقى، فالهدف ليس ذلك، بل يستخدم الفنانون الموسيقى وسيلة لنقل المعلومات، سواء عن ذوقنا الفني، أو تقنياتنا، أو علم وظائف الأعضاء البشرية، أي جميع المواضيع التي من المفترض أن تكون موضع اهتمام متلقي خارج كوكب الأرض.

من نواحٍ عديدة، فإن رسائل مهرجان “سونار” ستكون على قاعدة جيدة، حيث تم توجيه رسائل عدة قبل ذلك. على متن أول مركبة فضائية من صنع الإنسان تصل إلى الفضاء بين النجوم، وهي المركبة الفضائية “فوياجر 1” (Voyager 1)، أُرسل تسجيل صوتي على اسطوانة مطلية بالذهب يتضمن الموسيقى الشعبية المكسيكية، وموسيقى الروك آند رول الأولى، وأغنية زفاف بيروفية، وغيرها. وفي عام 2001، تضمنت رسالة مرسلة من “رادار إيفباتوريا” (Evpatoria radar)، في أوكرانيا، موسيقى لبيتهوفن وفيفالدي وجيرشوين، والتي عزفت على آلة ثيرمن. ثم بعد بضع سنوات، أرسلت وكالة “ناسا” أغنية لفرقة “البيتلز” إلى نجم يبعد 400 سنة ضوئية.

لكن رسائل مهرجان “سونار” فريدة نظراً لأنها عملية الاتصال الوحيدة بين النجوم التي تستخدم الأغاني التي ألفها موسيقيون للتواصل خصيصاً مع الكائنات الفضائية. إن الرسائل التي تتضمن محتوى من المعلومات الجوهرية يضعها بقوة ضمن تقليد مراسلة المخلوقات الذكية خارج كوكب الأرض، “أو ميتي” (METI)، وهو مصطلح صاغه ألكسندر زايتسيف عالم الفلك، ومهندس الراديو الروسي، للتمييز بين الممارسة وأساليب التواصل الأخرى بين النجوم. يركز البحث على الذكاء الخارجي، أو “سيتي”، على الاستماع لإشارات الكائنات الفضائية بدلاً من إرسالها، أما “سيتي النشط” (active SETI)، فهو ينطوي على إنشاء إشارات تفتقر إلى المعلومات، ولكنها تشير إلى الكائنات الذكية الفضائية إلى أننا موجودون.

“لغة الكوزميكا” أو اللغة الكونية

تاريخياً، ذهب التواصل بين النجوم باتجاه الشكليات، أو الأنظمة التي يتم فيها التعامل مع العناصر وفقاً لقواعد دقيقة. (فإن لعبة مثل لعبة الشطرنج تعتبر ذات طابع شكلي للغاية، في حين أن اللغة الطبيعية تعد أقل شكلية). على سبيل المثال، تطورت “لغة الكوزميكا” (lingua cosmica)، (بمعنى اللغة الكونية) في عام 1960، وهي أول لغة اصطناعية للتواصل بين النجوم، وتستند على مزيج من المنطق والرياضيات وتركيب اللغة الطبيعية. (استخدمت عمليات التواصل الكونية في عامي 1999 و2003 لغة رمزية مخصصة تعتمد على “لغة الكوزميكا”. في الآونة الأخيرة، اقترح ألكسندر أولونجرن، عالم الكمبيوتر الهولندي، جيلاً ثانياً من “لغة الكوزميكا” المستمدة من حسابات “اللامدا” (lambda calculus)، وهو نظام شكلي منطقي جداً.

تقدّم هذه الأنظمة ذاتها للتحليل المباشر، حيث إن الفكرة تنطوي على أن المخلوقات الفضائية يمكنها استخلاص قواعد النظام من دون فهم معنى الرموز نفسها. يُنظر أحياناً إلى الموسيقى على أنها عكس ذلك، أي غير قابلة للوصف، وشيء لا يمكن فهمه كثيراً بالشكل الذي يمكن الشعور بها. ولكن كما قد يخبرك أي موسيقي، هناك أيضاً منطق عميق ومتأصل في الموسيقى، أي هناك مسافات متساوية بين الدرجات الموسيقية على السلم الموسيقي، ويمكن دمج تلك الدرجات بطرق معينة تسمى النغمات المتوافقة، ويمكن التعبير عن الإيقاع بنسب رقمية تسمى وزن الإيقاع، وما إلى ذلك. الموسيقى هي مزيج من المنطق والعاطفة، من “اليين واليانغ” للتجربة الإنسانية.

في هذا الصدد، تعدّ الموسيقى وسيلة مثلى للتواصل بين النجوم، ولكن يجب أن تكون مناسبة لنقلها عبر مليارات الأميال من الفضاء الخالي. عندما نسمع الموسيقى على الأرض، تسجل الأذنان ضغط الهواء المحيط، لكن لا يوجد هواء في الفضاء، ما يعني أن الكائنات الفضائية لا تتمكن من سماع رسالة موسيقية مباشرة.

ينبغي أولاً تشفير الموسيقى في موجة الراديو إما بتنسيق تناظري أو رقمي. (استخدم كلا التنسيقين لإرسال الموسيقى عبر الفضاء بين النجوم). تشير الشكليات الموروثة للموسيقى إلى أن المخلوقات الفضائية التي تفتقر إلى القدرة على الاستماع يمكنها تحليل عناصر مختلفة من الموسيقى بفعالية، بالإضافة إلى إيقاعها ودرجتها وما إلى ذلك، من خلال دراسة الطريقة التي شُفرت فيها هذه العناصر في موجات الراديو.

اقترح كل من دوغلاس فاكوتش، مؤسس مؤسسة “ميتي”، وأندرو كايزر، ملحن، ومدير مشروع المراسلة في مهرجان “سونار”، وأولونجرن، طرقاً فريدة لترميز المفاهيم الموسيقية في المراسلات بين النجوم. على سبيل المثال، اقترح فاكوتش طريقة لاستخدام الأيقونات الصغيرة لتعليم المفاهيم الموسيقية للكائنات الفضائية. (على عكس الرموز، التي لا تشبه الشيء الذي تمثله، فإن الأيقونات تشبه تماماً الشيء الذي تمثله). لذلك، لتعليم مفهوم الإيقاع، يمكن أن يكون للمراسلات بين النجوم إيقاعاً متوازناً. ما الذي يمكن أن تتعلمه الكائنات الفضائية من تحليلها للعناصر الشكلية للموسيقى المشفرة في رسالة بين النجوم؟ وفقاً لفاكوتش، يمكن للرسائل الموسيقية تعليم الكائنات الفضائية قليلاً عن علم وظائف الأعضاء البشرية. على سبيل المثال، يمكن استخدام الدرجات الموسيقية المختلفة على السلم الموسيقي لتحديد مدى حساسيتنا للاختلافات بين الدرجات الموسيقية.

التجربة الإنسانية للموسيقى

بالإضافة إلى الجوانب العملية لاستخدام الموسيقى باعتبارها أساساً للمراسلات بين النجوم، يجدر أيضاً التفكير في دورها في التجربة الإنسانية. توجد أنواع من الموسيقى في كل ثقافة تقريباً على الأرض. وعلى عكس اللغة، يمكن لأي شخص، على الأقل سماع و/أو إدراك الإيقاع، “فهم” الموسيقى، حتى لو كان لا يعرف العزف على آلة موسيقية أو ترجمة الدرجات الموسيقية على الآلات. إذا كان هدف مؤسسة “ميتي” هو نقل معلومات حول الأرض وسكانها، فإن إهمال تضمين الموسيقى سيكون بمثابة إغفال لا يستهان به.

يعدّ انتشار الموسيقى على الأرض أمراً جيداً، ولكن عندما يتعلق الأمر بإرسال الرسائل بين النجوم، فإنها تمثل مشكلة. إذاً، كيف يمكننا اختيار الأغاني التي نريد إرسالها إلى المخلوقات الفضائية؟ في الماضي، كان المحتوى الموسيقي للرسائل بين النجوم متحيز للغاية تجاه الموسيقى الكلاسيكية الغربية، والتي بالكاد تعكس تنوع الأساليب الموسيقية الموجودة على كوكبنا. ينشأ هذا التحيز من عدم وجود تنوع في اللجان الصغيرة للأفراد المسؤولين عن اختيار الموسيقى لإرسالها بين النجوم. حاول جون لومبرج، الذي ساعد في تصميم “أسطوانة فوياجر الذهبية” (Voyager golden records) (التي أرسلت إلى الفضاء وتحمل معلومات عن الإنسان)، إعداد رسالة أكثر تنوعاً لمهمة “نيو هورايزونز” (New Horizons)، والتي ستصبح الرسالة الثانية التي تدخل الفضاء بين النجوم، ولكنها لم تُرسل في المركبة الفضائية.

يجب أن تعاني أي عملية اختيار تتناول الموسيقى الموجودة مسبقاً فقط، من التحيزات الثقافية. من المستحيل ببساطة إنشاء مجموعة موسيقية تمثل كل مجموعة ثقافية على الأرض أو كل نوع من أنواع الموسيقى. هذا يشير إلى أن تأليف الموسيقى المقصود منها نقل المعلومات بين النجوم هو المسار الواعد لإحراز تقدم نظراً لأن هذا من شأنه أن يخلق نوعاً جديداً تماماً من الموسيقى. لن يقتصر الأمر على تجنب التحيز في الاختيار، ولكنه يفتح أمامنا إمكانية تأليف موسيقى تحمل أكبر قدر ممكن من المعلومات حول الإنسان. يعدّ هذا خروجاً جذرياً عن وظيفة الموسيقى النموذجية لربط البشر مع بعضهم، وسيتم تأليف الموسيقى الجديدة المرسلة إلى خارج كوكب الأرض لربط جنسين مختلفين تماماً عبر مساحات شاسعة من الزمان والمكان.

كانت العناصر الموسيقية لرسائل مهرجان “سونار” عام 2018 خطوة أولية في اتجاه الموسيقى المخصصة لخارج كوكب الأرض، لكنها لن تكون الأخيرة. في وقت سابق من هذا العام أعلنت مؤسسة “سيتي” عن “مشروع إرثلينغ” (Earthling) الخاص بها، والذي يستعين بمصادر الموسيقى الأصلية من جميع أنحاء العالم. ستشكل هذه النماذج أساساً لتركيبة موسيقية مكونة من 7 أجزاء تسمى “إرثلينغ”، والتي سيتم تأديتها في موقع “مصفوفة تلسكوب ألين” (Allen Telescope Array) في شمال كاليفورنيا، وهي مصفوفة التلسكوبات الوحيدة في الولايات المتحدة المخصصة للبحث عن المخلوقات الذكية خارج كوكب الأرض. يهدف “مشروع إرثلينغ” إلى تأليف تركيبة موسيقية مشتركة تمثل الإنسانية بوضوح، والتي نأمل أن تتجنب التحيز الذي أصاب سابقاً الرسائل الموسيقية المرسلة بين النجوم. على الرغم من عدم وجود خطة لبث هذه الموسيقى إلى الكون، إلا أن المشروع يمكن أن يعلمنا الكثير حول كيفية تأليف الموسيقى مع التركيز على التواصل بين النجوم.

عندما شرع كارل سيجان في تصميم “أسطوانة فوياجر الذهبية”، فهم أن أول رسالة إنسانية بين النجوم لم يكن من المرجح استقبالها من قبل كائنات ذكية خارج كوكب الأرض. ومع ذلك، فقد عرف أن “إطلاق هذه الرسالة في المحيط الكوني يعني شيئاً يبعث على الأمل في الحياة على هذا الكوكب”. وينطبق الأمر نفسه على الموسيقى خارج كوكب الأرض وعلى جميع الرسائل الموسيقية التي سوف تُرسل بين النجوم في المستقبل، حتى لو لم تسمع الكائنات خارج كوكب الأرض ألحاننا.