نهاية الفضاء الإلكتروني

7 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio
استسلمت الولايات المتحدة لرؤية الصين حول السيادة على الإنترنت. فماذا عن نهاية الفضاء الإلكتروني؟

في شهر يناير/كانون الثاني من عام 2010، جلست في قاعة احتفالات بمتحف “نيوزيام” في مدينة واشنطن، وسمعت صوت وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون وهي تعلن أن “انتشار شبكات المعلومات يشكل نظاماً عصبياً جديداً على كوكبنا”. أعلنت كلينتون أن حرية الإنترنت ستكون ركيزة جديدة للدبلوماسية الأميركية، وأن الولايات المتحدة كدولة “تدعو لوجود شبكة إنترنت واحدة تمنح البشرية جمعاء فرصاً متساوية للوصول إلى المعرفة والأفكار”. ووصفت الوصول إلى شبكات المعلومات العالمية بأنه مثل “بوابة إلى التطور”، وقالت: “حتى في الدول الاستبدادية، تساعد شبكات المعلومات الناس على اكتشاف حقائق جديدة وتُخضع الحكومات لمساءلة أكبر”. تحدثت كلينتون عن مبدأ “حرية الاتصال” مستندة إلى خطاب “الحريات الأربع” الشهير الذي ألقاه فرانكلين روزفلت، إذ قالت:

يجب ألا تمنع الحكومات اتصال الناس بالإنترنت أو بالمواقع الإلكترونية، أو اتصال بعضهم ببعض. تشبه حرية الاتصال حرية التجمع، لكن في الفضاء الإلكتروني. وهي تتيح للأفراد الاتصال بالإنترنت والتجمع على أمل التعاون.

“جدار الحماية الإلكتروني العظيم”

كانت هذه الرؤية متضاربة مع رؤية دول مثل الصين التي اشتهرت بإنشاء “جدار الحماية الإلكتروني العظيم” سيئ السمعة، وغيرها من الدول القمعية، فهي ترى أنه من الضروري تقسيم شبكة الإنترنت إلى شبكات وطنية وفقاً لتقسيم حدود الدول، وأن تخضع لسيطرة الحكومات تماماً كما تخضع أراضيها لسيطرتها. وفقاً لهذه الرؤية، يمكن للدول الاستبدادية صنع شبكات إنترنت استبدادية بنفس الدرجة.

في الأسبوع الماضي، استأنفت إدارة ترامب مسيرتها التي استمرت على مدى أسابيع من التهديد بالحرب على شبكة التواصل الاجتماعي الصينية “تيك توك”، وحملتها التي استمرت شهوراً للحد من دور شركة معدات الإنترنت الصينية “هواوي” في إعداد شبكات الجيل الخامس (5G) العالمية وفق خطة ذات مدى أبعد. سيمنع الأمر التنفيذي الجديد الذي أصدره ترامب أي شركة أميركية من التعامل مع الشركتين الصينيتين المنتجتين لتطبيقي “تيك توك” و”وي تشات”، ما يعني منع عرض التطبيقين في متاجر التطبيقات الأميركية ما لم تقم شركتاهما الأم ببيعهما. كما أوضح وزير الخارجية مايك بومبيو مجموعة خطط لما يسمى بالشبكة النظيفة، التي تمنع الشركات الصينية من الوصول إلى ما تملكه أميركا من “متاجر تطبيقات وتطبيقات وخدمات السحابة الإلكترونية وشبكات شركات الاتصالات الخلوية وكابلات الإنترنت تحت البحار”.

كان هذا كله جزءاً من تصعيد شامل لسياسة إدارة ترامب وخطابها المعاديين للصين، وهو أيضاً مبني على بعض المخاوف المشروعة بشأن ممارسات الرقابة في الصين. لكن ثمة طريقة أخرى للنظر إلى الأمر، وهي أنه استسلام نهائي لرؤية الصين لسيادة الإنترنت.

تقسيم الفضاء الإلكتروني

استمر النقاد بقرع ناقوس الخطر بشأن تقسيم الفضاء الإلكتروني وإنشاء “الشبكة الوستفالية” على مدى أعوام. وقد تحققت هذه المخاوف الآن. ربما كانت هذه مأساة ساهمت الولايات المتحدة في وقوعها جزئياً، وكان حريّ بها أن تتوقعها.

كان خطاب كلينتون استشرافياً ومستقبلياً آنذاك، وبدت لفترة وجيزة أنها تتمتع بالبصيرة عندما اندلعت تظاهرات الربيع العربي القائمة على وسائل التواصل الاجتماعي في العام التالي، لكن خطابها هذا استند في الواقع إلى مفاهيم من الأيام الأولى للإنترنت حول “الفضاء الإلكتروني” باعتباره مجالاً منفصلاً عن الدول القومية على الأرض.

صاغ كاتب الخيال العلمي، ويليام غيبسون، مصطلح الفضاء الإلكتروني في روايات تدور أحداثها في المستقبل القريب وتتحدث عن إضعاف الحكومات الوطنية وتقويضها بسبب تقنيات الاتصالات الجديدة. لا تشبه شبكة الإنترنت اليوم المجال الشامل الذي تصوره غيبسون، لكن كلمة “الفضاء” في تعبير “الفضاء الإلكتروني” جعلته استعارة مفيدة في المحادثات حول دور الدولة في إدارة الإنترنت وحريتها.

في المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 1996 الذي عقد في مدينة دافوس السويسرية، صاغ جون بيري بارلو، مؤلف الأغاني السابق لفرقة الروك “غريتفل ديد” (Grateful Dead) ومؤسس “مؤسسة الحدود الإلكترونية”، “إعلان استقلال الفضاء الإلكتروني” الذي تقول مقدمته:

يا حكومات العالم الصناعي، يا عمالقة اللحم والحديد المرهقين، أنا قادم من الفضاء الإلكتروني، الوطن الجديد للعقل. بالنيابة عن المستقبل، أطلب منكم، أنتم القادمون من الماضي أن تتركونا وشأننا. فلا مكان لكم بيننا، ولا سيادة لكم حيث نجتمع.

اليوم، يشابه دور إعلان بارلو دور كتاب “نهاية التاريخ” (The End of History) للكاتب فرانسيس فوكوياما، فهما مثالان عن الحكمة التقليدية التي كان يتبعها المؤلفون فيما مضى، إذ يدلون بأفكارهم وحججهم ثم يقولون بعد ذلك: “حسنٌ، لم يكن الأمر كذلك”. لكن وعلى مدى فترة طويلة من الزمن، كانت الفكرة السائدة تقول إنه يجب ألا تتحكم الدول بالإنترنت وإنها غير قادرة على ذلك، وهذه الفكرة لم تكن سائدة في وادي السيليكون فقط. في عام 2000، وصف زوج هيلاري كلينتون الجهود التي تبذلها الصين لفرض الرقابة على الإنترنت بأنها مثل “محاولة تثبيت الهلام على الجدار بمسمار”. وفي الأعوام التالية، أصبحت الصين بارعة بتثبيت الهلام على الجدار بمسمار بالفعل.

حرية الإنترنت

لطالما تجاهلت الحكومات الاستبدادية الحديث الأميركي حول حرية الإنترنت، وهناك سبب لذلك. فكما هو الحال مع “التجارة الحرة”، يرى الكثيرون في حرية الإنترنت مشروعاً لإبراز الهيمنة الأميركية مغطى بالأفعال المبتذلة. هل يبالغ فلاديمير بوتين في الارتياب بقوله إن الإنترنت كانت في الأصل مشروعاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، و”يستمر تطويرها على هذا الأساس”؟ بالتأكيد، لكن الفكرة تحمل شيئاً من الحقيقة. فأصل الإنترنت يعود بالفعل إلى أنظمة طورتها وكالة الاستخبارات الأميركية، ولا تزال الوكالة تنخرط في استثمارات وادي السيليكون.

بعد أن كشف إدوارد سنودن ممارسات المراقبة في وكالة الأمن القومي، أخذ القادة وحتى الديمقراطيين منهم يتحدثون بجدية عن أهمية سيادة الإنترنت، حتى أن الرئيسة البرازيلية آنذاك، ديلما روسيف، درست لفترة من الزمن أمر سن تشريعات تفرض تخزين بيانات المستخدمين البرازيليين داخل حدود البلاد. لم يحدث ذلك في البرازيل، لكنه حدث في روسيا. لكن تاريخ أميركا في جمع البيانات الكبيرة هو سبب في اعتبار حظرها لتطبيق “تيك توك” نفاقاً.

قد يكون لخطاب المسؤولين الأميركيين الصريح حول “حرية الإنترنت” نتائج عكسية. فليس من المفاجئ تماماً أن تعتبر حكومات دول مثل الصين خدمات مثل “جوجل” و”فيسبوك” تهديداً عندما يلقي وزير خارجية الولايات المتحدة خطابات رفيعة المستوى تخبر هذه الحكومات علانية بضرورة أن تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي تهديداً لسلطتها. (قد تكون المخاوف الأميركية بشأن “تيك توك” وخصوصية المستخدم مسوغة، لكن وزارة الخارجية الصينية تصدر بيانات تتبجح فيها بجمع بيانات الأميركيين بالفعل).

كانت شركات الإنترنت الكبرى نفسها تتهكم بأسلوب ساخر تقريباً بشأن موضوع حرية الإنترنت. وكان مارك زوكربيرغ مؤسس شركة “فيسبوك” حريصاً جداً على اكتساب موافقة الحكومة الصينية لدرجة أنه وضع نسخة من كتاب الرئيس الصيني شي جينبينغ في مكان ظاهر من مكتبه في أثناء زيارات المسؤولين الصينيين، وطلب من الرئيس شي اقتراح اسم لطفله الذي لم يولد بعد. واليوم، يواجه زوكربيرغ تهديدات من الجهات الرقابية الحكومية، كما أنه يئس من الوصول إلى السوق الصينية. لذلك قال للكونغرس إنه “يؤكد على التقاليد الديمقراطية مثل حرية التعبير” في مواجهة منافسيه الصينيين. في عام 2006، وافقت شركة “جوجل” على التعاون مع الجهات الرقابية الصينية، بذريعة أن ذلك ضروري من أجل إنجاز مهمتها المتمثلة “بتوفير أكبر قدر من إمكانية الوصول إلى المعلومات لأكبر عدد من الناس”.

وفي عام 2010، بعد أن نقلت شركة “جوجل” عملياتها إلى خارج أراضي الصين بعد سلسلة من الهجمات الإلكترونية، أدان الشريك في تأسيسها صاحب الأصول السوفيتيية، سيرجي برين، “قوى الشمولية” التي جعلت هذه النقلة ضرورية، وقال لصحيفة “نيويورك تايمز” إن نهج “نصف شبكة الإنترنت” الذي تتبعه الدول الاستبدادية سيفشل في نهاية المطاف، وقال أيضاً: “أعتقد أنهم سيضطرون لفتحها على المدى الطويل”. في عام 2018 تم الكشف عن أن شركة “جوجل” كانت تعمل على صنع إصدار جديد خاضع للرقابة من محرك البحث الخاص بها مخصص للسوق الصينية، لكنها أوقفت العمل عليه بعد أن وصف موظفوها المشروع بأنه خيانة لرسالة “جوجل” المعلنة.

نموذج شبكة الإنترنت المفتوحة

واجه نموذج شبكة الإنترنت المفتوحة عثرة جديدة في عام 2016 عند انتخاب رئيس أثبت عدم اهتمامه بالديمقراطية العالمية وعدم فهمه لطريقة عمل الإنترنت. تعرض ترامب للسخرية في أثناء حملته عام 2015 لاقتراحه محاربة تنظيم الدولة المعروف باسم “داعش” عن طريق التحدث إلى بيل غيتس بشأن “إغلاق شبكة الإنترنت بطريقة ما في مناطق معينة” ومنع الإرهابيين من استخدام “شبكة الإنترنت الخاصة بالأميركيين“. وعندما ينهي ولايته الأولى، ستكون شبكة الإنترنت قد أصبحت أكثر انغلاقاً كما وصفها، وستتمتع الحكومات الوطنية بحقوق ملكية أكبر فيما يخص بيانات مواطنيها. وحتى لو خسر الانتخابات في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، فقد يكون ذلك جزءاً أساسياً من تركته. كما أن جو بايدن يروج في حملته أنه أكثر تشدداً في سياسته مع الصين من ترامب، ومن الصعب تخيل أنه سيخفف هذه القيود المبنية أساساً على مخاوف واسعة النطاق حول قيام الصين بجمع البيانات، وهذه المخاوف ليست محصورة بترامب ومؤيديه. وإذا تمكنت القوانين الجديدة من إرغام الشركة الصينية على بيع تطبيق “تيك توك” لشركة أميركية، لن يكون بالإمكان فعل شيء للعودة عن ذلك.

وحتى لو كانت شبكة الإنترنت المفتوحة مجرد فكرة مثالية بعيدة عن الحقيقة، فهذا لا يعني أننا سنكون بحال أفضل إذا ما وافقنا ببساطة على تشكيل عالم من شبكات الإنترنت الوطنية الأميركية المقسمة. فقد أصبح قطع خدمة الإنترنت الوطنية في أوقات الأزمات السياسية شائعاً، وما فعلته بيلاروسيا يوم الأحد أحدث مثال على ذلك.

يمكن اعتبار تطبيق “وي تشات” الصيني الذي حظرته الإدارة الأميركية الأسبوع الماضي، نموذجاً عما ستبدو عليه شبكات الإنترنت المقسمة هذه، علماً أنه يوقع آثاراً أكثر أهمية من آثار تطبيق “تيك توك” على الرغم من أنه لا يذكر في النقاشات كثيراً. بالنسبة للمستخدمين الصينيين، يعتبر تطبيق وي تشات” منصة شاملة ومريحة بصورة استثنائية تستخدم في المحادثات بين الأشخاص ومشاركة الأخبار كوسيلة تواصل اجتماعي وتسديد دفعات مالية والتسوق والألعاب. لا يمثل هذا التطبيق بمفرده شبكة الإنترنت بالنسبة للمستخدمين الصينيين فحسب، بل وهو منتدى يدور فيه جزء كبير من حياتهم الاقتصادية والاجتماعية واليومية، ويصعب العيش من دونه وخصوصاً في المدن الكبيرة. (لا تتمتع النسخة العالمية من التطبيق بجميع هذه الوظائف، بل هي تشبه تطبيقات المراسلة الأخرى، مثل واتساب). التطبيقات الكلية مثل “وي تشات” هي نقيض نموذج شبكة الإنترنت المفتوحة العالمية غير المقيدة التي ينتجها المستخدم، وهي تعمل كأداة مراقبة كانت تعتبر حلماً للحكومات الاستبدادية في القرن الماضي. إذا أصبحت شبكات الإنترنت المقيدة هي القاعدة، فستبحث دول أخرى عن فرص كي تتبع خطى الصين.

لطالما سعت الحكومات الوطنية جاهدة لتحقيق ما يسميه عالم الأنثروبولوجيا، جيمس سكوت، بـ “الوضوح”، أي ترتيب السكان من أجل تبسيط وظائف الدولة التقليدية مثل الضرائب والتجنيد ومنع التمرد والجريمة. فالحكومات تبغض الغموض فيما يخص الأراضي الواقعة تحت سيطرتها أو الشعوب التي تسكنها. وفي عصرنا هذا، فإن دافع تحقيق الوضوح، المتحد مع مشروع سياسي قومي عرقي، يحفز زيادة الأمن الحدودي وقمع الهجرة غير الموثقة أكثر من أي وقت مضى.

الرؤية الكلاسيكية للفضاء الإلكتروني

كان من المفترض أن تشكل الرؤية الكلاسيكية للفضاء الإلكتروني، كما يسميه أصحاب الرؤى في حقبة التسعينيات مثل بارلو وغيبسون، تهديداً لوضوح الدولة، فهو عالم للاتصالات والتجارة يخرج عن نطاق سيطرة الدول القومية الأرضية، وتستحيل فيه تماماً ممارسة القمع الاستبدادي والرقابة. وكانت حكومات مثل حكومة الصين معادية لهذه الرؤية على نحو صريح منذ البداية. في حين أيدتها الولايات المتحدة في خطاباتها حتى الآن، ولو كان ذلك محدوداً وانتهازياً غالباً.

هذا لا يعني أن هذه هي نهاية القصة. تمارس الحكومات الوطنية دوراً أكبر في إدارة الفضاء الإلكتروني في وقت تبدو فيه قدرتها على أداء الوظائف الأساسية للحكم في العالم الحقيقي أضعف من أي وقت مضى. ولا يعني بناء الحكومات أسواراً جديدة على شبكة الإنترنت أنها ستنجح في حمايتها.

قد يستمر حلم شبكة الإنترنت المفتوحة، ولكن على أقل تقدير، حان الوقت للتخلص من عالم كامل من التعابير المجازية. فقد ثُبّت الهلام على الجدار بالمسمار، وشق عمالقة اللحم والحديد المرهقون طريقهم إلى وطن العقل، ولن يعود النظام العصبي على كوكبنا إلى سابق عهده قطّ بسبب نهاية الفضاء الإلكتروني المشترك.