كيف ستمكننا تجربة مخبرية صغيرة النطاق من اختبار أساس نسيج الواقع؟

3 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إليك تجربةً ذهنية غريبة؛ تخيَّل سحابةً مكوّنة من الجسيمات الكمومية المتشابكة، بمعنى أنها تتشارك الوجود الكمومي نفسه، ويتَّسم سلوك هذه الجسيمات بالفوضوية. أما الهدف من هذه التجربة فهو إرسال رسالة كمومية عبر هذه المجموعة من الجسيمات؛ أي أنه يجب إرسالها من أحد جانبي السحابة ومن ثم استخراجها على الجانب الآخر.

عندها ستتمثل الخطوة الأولى في تقسيم السحابة في منتصفها إلى قسمين حتى يتم التحكُّم في الجسيمات الموجودة في القسم اليساري بشكلٍ منفصل عن تلك الموجودة في القسم اليميني. وفي الخطوة التالية، نقوم ببثِّ الرسالة في القسم اليساري من السحابة، حيث يؤدي السلوك العشوائي للجزيئات إلى بعثرة الرسالة بسرعة.

والسؤال الآن: هل يمكن إعادة تشكيل رسالةٍ كهذه على الإطلاق؟

نحصل على جوابٍ اليوم بفضل عمل آدم براون من جوجل في كاليفورنيا وعددٍ من زملائه، بمن فيهم ليونارد ساسكايند من جامعة ستانفورد، وهو “أبو نظرية الأوتار”؛ حيث يوضِّح هذا الفريق بالضبط كيف يمكن إعادة استخراج هذه الرسالة بطريقةٍ تدعو إلى الدهشة.

يقول الباحثون: “إن المفاجأة تكمن فيما يحدث بعد ذلك”؛ فبعد فترةٍ تلبث خلالها الرسالة في حالةِ تبعثُر، تتجمع أجزاؤها فجأةً وتتَّحد من جديد في نقطةٍ بعيدة جداً عن مكان إدخالها الأصلي. ويقول الباحثون:”لقد تجمَّعت الإشارة وتركَّزت بصورةٍ غير متوقعة، دون أن يكون واضحاً على الإطلاق ما الأمر الذي لعب دور العدسات”.

غير أن الأمر الاستثنائي بالفعل يتمثل في قولهم إن هذه التجربة تلقي الضوء على أحد أعمق ألغاز الكون، ألا وهو: الطبيعة الكمومية للجاذبية والزمكان. ولنبدأ ببعض المعلومات الأساسية.

يكمن مفتاح فهم هذه التجربة الذهنية في طبيعة الظواهر المنبثقة؛ إذ يقول براون وزملاؤه إن الأنظمة الكمومية يمكن أن تتمتع بظواهرَ منبثقةٍ بالطريقة نفسِها التي تبديها الأنظمة العادية.

على سبيل المثال، عندما يتحدث شخصان مع بعضهما البعض، فهما يتبادلان المعلومات باستخدام الأمواج الصوتية. لكن من الصعب فهم الظاهرة من وجهة نظر ديناميك الجزيئات؛ فقد تحتوي الغرفة التي يتكلمان فيها على 10 مرفوعة للقوة 27 جزيئاً، كلٌّ منها يصطدم بآخر كل 10 مليار جزءاً من الثانية تقريباً، بطريقةٍ عشوائية مُبهرة.

ستتطلب محاكاةٌ حاسوبية لنظام كهذا معالجةَ 10 مرفوعة للقوة 37 بت من المعلومات كلَّ ثانية، مما يجعل القيام بأمرٍ كهذا مستحيلاً من الناحية العملية، ولكن المحادثة تستمر على أي حال. يقول براون وزملاؤه: “يبقى التواصل ممكناً رغم الفوضى؛ لأن النظام -مع ذلك- يمتلك أنماطاً جماعية منبثقة (أمواجاً صوتية)، وهي تتصرف بطريقةٍ مُنظَّمة”.

إن هذه الظاهرة نفسها تحدث على المستوى الكمومي أيضاً، وهي ذات الظاهرة المنبثقة التي تؤدي دور العدسة وتعيد تركيز الرسالة الكمومية في المثال السابق.

غير أن الظاهرة المنبثقة على المستوى الكمومي تعد أكثر قوةً وأهميةً بكثير من تلك الأمواج الصوتية البسيطة؛ حيث يقول براون وزملاؤه: “عندما تكون التأثيرات الكمومية كبيرةً، فإن أنماط التشابك المعقدة يمكن أن تؤدي إلى ظهور أشكالٍ جديدة مختلفة اختلافاً نوعياً من الظواهر الجماعية المنبثقة. وأحدُ الأمثلة الصارخة على هذا النوع من الانبثاق يتمثل بالضبط في التوليد المُجسَّم ثلاثي الأبعاد لكلٍّ من الزمكان والجاذبية انطلاقاً من التشابك والتعقيد والفوضى”. وبعبارةٍ أخرى، إنَّ ظاهرةً كمومية منبثقة منفردة تُشكِّل أساس نسيج الواقع.

لهذا السبب تتلقى هذه التجربة الذهنية اهتماماً كبيراً من قِبل الباحثين؛ فهي تسمح للفيزيائيين بالتفكير حول مثالٍ بسيط لظاهرةٍ كمومية منبثقة وحول الطريقة التي تمكِّنهم من توليد إحداها ودراستها في المختبر. فمن شأن تجربةٍ كهذه أن تجعل دراسة أساس نسيج الواقع مجردَ لعبة في أيدي الفيزيائيين يتلاعبون بها.

إذن، كيف سيتمكن الباحثون من البدء في إجراء تجربةٍ كهذه؟ يقول براون وزملاؤه إن هناك عدة طرق للقيام بهذه التجربة. وتتمثل الخطوة الأولى في إنشاء مجموعةٍ من الحالات الكمومية المتشابكة، التي يمكن فصلها لاحقاً إلى مجموعتين من أجل معالجتهما بشكلٍ مستقلّ.

وإحدى الطرق لفعل ذلك هي إنشاء مجموعةٍ كبيرة من الأزواج المتشابكة التي تعرف باسم أزواج بيل. وقد تم بالفعل إنشاء هذه الأزواج باستخدام ذرات الروبيديوم والأيونات المُحتجَزة، بحسب قول براون وزملائه.

وفي الخطوة التالية يتم إدخال معلوماتٍ كمومية إلى أحد نصفي هذه الحالات الكمومية، وهذا الأمر تم تحقيقه أيضاً ولكن على نطاقٍ أصغر من اللازم لتنفيذ تجربة براون وزملائه.

أما الخطوة النهائية فهي التحكم في التطور الكمومي للنصف الآخر من الحالات الكمومية بطريقةٍ تسمح للرسالة بالظهور مرةً أخرى. ومع أن هذه الخطوة الأخيرة أكثرَ صعوبةً، لكنَّ الفيزيائيين يعرفون بالفعل كيفية التلاعب بالحالات الكمومية باستخدام النبضات الكهرطيسية، وإن كان ذلك في ظروف تجربةٍ أبسطَ بكثير.

خلاصةُ القول هي أنَّ إجراء هذا النوع من التجارب يتجاوز الإمكانات الحالية لعلم فيزياء الكم، ولكن بالنظر إلى وتيرة تطوير الفيزيائيين لكفاءاتهم في المجال الكمومي، قد يكون ممكناً إجراؤها خلال السنوات القليلة القادمة.

وإذا تمكن الباحثون من القيام بهذه التجارب بالفعل، فإنَّ ذلك سيفتح المجال لعددٍ من الاحتمالات المثيرة؛ حيث إن القدرة على التلاعب بالشكل المنبثق للزمكان ستُتيح اختبار أفكارٍ مختلفة حول الجاذبية الكمومية للمرة الأولى.

وفي الواقع، يتمثل أحد الإنجازات العلمية لهذا العمل البحثي في إظهار ارتباط رياضي قطعي بين إرسال المعلومات عبر نظامٍ كمومي متعدد الاجسام وبين النقل الآني عبر الثقوب الدودية في الزمكان. يقول الفريق: “إن بحثنا يشير إلى أننا قد ننجح في استخدام التجارب الفيزيائية على نطاقٍ صغير من أجل دراسة الجاذبية الكمومية وسبرِها بشكلٍ غير مباشر”.

إنه عملٌ مثير للاهتمام قد يؤدي إلى نتائجَ كبيرة. ومن الواضح أن براون وزملاءه يشعرون بالحماسة تجاه هذا الأمر؛ حيث يقولون: “إن تقنية التحكم في الأنظمة الكمومية المعقدة متعددة الأجسام يتقدَّم بسرعة، ويبدو أننا نشهد فجر حقبةٍ جديدة في الفيزياء، تتمثل في دراسة الجاذبية الكمومية في المختبر”.

المرجع: arxiv.org/abs/1911.0631
الجاذبية الكمومية في المختبر: النقل الآني حسب الحجم والثقوب الدودية القابلة للعبور.