زرع العصبونات البشرية في أدمغة الجرذان: تجربة جديدة واعدة وإشكاليات أخلاقية

4 دقائق
زرع العصبونات البشرية في أدمغة الجرذان: تجربة جديدة واعدة وإشكاليات أخلاقية
مصدر الصورة: مختبر باسكا/ جامعة ستانفورد
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بين بحث جديد أن العصبونات البشرية المزروعة ضمن أدمغة الجرذان تواصل النمو، وتشكل روابط مع خلايا هذه الأدمغة، ما يساعد على توجيه سلوك هذه الحيوانات.

تجارب تثير تساؤلات حول “أنسنة” الحيوانات

وفي دراسة تم نشرها في مجلة نيتشر (Nature) مؤخراً، تم زرع مجموعات من خلايا الدماغ البشرية في أدمغة الجرذان حديثة الولادة. ونمت هذه الخلايا واندمجت ضمن الدارات العصبونية الدماغية الخاصة بهذه القوارض، وفي نهاية المطاف، أصبحت تشكل نسبة السدس تقريباً من أدمغتها. ويمكن الاستفادة من هذه الحيوانات في محاولة دراسة الاضطرابات العصبية النفسية لدى البشر، كما يقول الباحثون الذين أجروا هذا البحث.

يقول متخصص الأخلاقيات البيولوجية في جامعة سنغافورة الوطنية، والذي لم يشارك في الدراسة، جوليان سافوليسكو: “إنها خطوة مهمة نحو تحقيق التقدم في فهم أمراض الدماغ ومعالجتها”. ولكن هذا التطور يثير تساؤلات أخلاقية أيضاً، كما يضيف خصوصاً حول مسألة “أنسَنة” الحيوانات.

اقرأ أيضاً: قطب كهربائي داخل الدماغ لإصلاح الذاكرة يفتح آفاقاً جديدة لعلاج ألزهايمر

كان سيرجيو باسكا من جامعة ستانفورد يعمل على مدى أكثر من عقد على العُضيّات (الأعضاء الصغيرة) العصبونية، وهي كتل صغيرة من العصبونات المستزرعة ضمن طبق مخبري، وتشبه مناطق محددة في الدماغ. وغالباً ما يتم استنبات هذه العضيّات من خلايا الجلد البشرية التي يتم تحويلها في البداية إلى خلايا جذعية. وبعد ذلك، يمكن تحفيز هذه الخلايا على تشكيل العصبونات في المختبر، وذلك ضمن الظروف المناسبة. ويمكن استخدام العضيّات الناتجة في دراسة إشارات خلايا الدماغ واتصالاتها ببعضها البعض، وكيف يمكن أن تعمل بشكل خاطئ في بعض الاضطرابات.

ولكن مجموعة الخلايا المدروسة في المختبر لن تستطيع تقديم الكثير من المعلومات. وفي الحقيقة، فإن هذه الخلايا لا تحاكي ما يحدث في أدمغتنا فعلاً، ولهذا، يتفادى باسكا والكثيرون من العاملين في هذا المجال استخدام المصطلح الشائع “الأدمغة الصغيرة”. فخلايا العضيات لا تستطيع تشكيل نفس الروابط المعقدة. كما أنها لا ترسل الإشارات بنفس الطريقة أيضاً. وليست بضخامة الخلايا الموجودة في أدمغتنا. يقول باسكا: “حتى عند الاحتفاظ بالعصبونات البشرية لفترة تصل إلى عدة مئات من الأيام، لاحظنا أنها لا تنمو إلى الحجم الذي تنمو إليه العصبونات الموجودة في الدماغ البشري”.

كما أنه من المستحيل أن نعرف كيف يمكن للتغيرات التي تطرأ على العصبونات في المختبر أن تتسبب بأحد أعراض الاضطرابات العصبية النفسية. فإذا تغير شكل الخلايا الموجودة في الطبق المخبري، أو تغيرت طريقة إطلاقها للإشارات، أو البروتينات التي تصنعها، فماذا يعني هذا بالنسبة لذكريات الشخص أو سلوكه، على سبيل المثال؟

وللالتفاف حول هذه المشكلات، قام باسكا وزملاؤه بزرع العضيات ضمن أدمغة جرذان حية، وتحديداً، حديثة الولادة منها. تحدث تغيرات كبيرة وشاملة في أدمغة الحيوانات الصغيرة للغاية في أثناء تطورها. وبالتالي، وكما استنتج باسكا، فإن العصبونات المزروعة في هذه المرحلة ستحظى بأفضل فرصة للتكامل مع الدارات العصبونية في أدمغة الجرذان.

اقرأ أيضاً: كيف تؤدي الاختبارات الجينية الحديثة إلى قلب حياة البعض رأساً على عقب؟

بناء عضيات الدماغ

استخدم الفريق عضيات مصنوعة من خلايا الجلد. وقد تم تحويل هذه الخلايا إلى خلايا جذعية في المختبر قبل أن يتم تحفيزها على تشكيل طبقات من الخلايا بشكل مشابه لما يوجد في قشرة الدماغ البشرية، وهي الجزء الخارجي المليء بالطيات من الدماغ البشري، والذي يحتوي على المناطق المسؤولة عن التفكير، والرؤية، والسمع، والذاكرة، واستشعار الوسط المحيط، وغيرها. وقد استغرقت هذه العملية شهرين تقريباً في المختبر.

وبعد ذلك، تم حقن العضيات الناتجة ثلاثية الأبعاد ضمن أدمغة جرذان بعمر عدة أيام عبر فتحة في الجمجمة. حيث تم زرع العضيات في القشرة الحسية، وهي منطقة لها دور في مساعدة الحيوانات على استشعار بيئتها المحيطة.

وخلال أربعة أشهر، أظهرت عمليات مسح الأدمغة نمو العضيات إلى ما يقارب تسعة أضعاف حجمها الأصلي، بحيث أصبحت تشكل ثلث أحد نصفي الدماغ تقريباً. وبدا أن الخلايا قامت بتشكيل وصلات مع خلايا دماغ الجرذان، وأصبحت جزءاً من دارات الدماغ.

“إن هذه التجربة تطرح احتمال قيام الباحثين “بتخليق” جرذ متطور قد يحمل قدرات إدراكية أكبر مما لدى الجرذ العادي”.

جوليان سافوليسكو، المتخصص في الأخلاقيات البيولوجية في جامعة سنغافورة الوطنية

أما الخلايا نفسها فقد كانت أقرب بكثير من حيث الحجم إلى العصبونات في الأدمغة البشرية، وبعد ستة أشهر من الزرع، بلغ حجمها قرابة ستة أضعاف حجم الخلايا المستزرعة في طبق. يقول باسكا: “إنها ضخمة للغاية”. وتشير التجارب التي تم إجراؤها على الخلايا إلى أنها تطلق الإشارات بطريقة مماثلة للخلايا الموجودة في الدماغ البشري. يقول باسكا: “لقد انتقلت الخلايا إلى مستوى آخر من النضج”.

اقرأ أيضاً: شركة ناشئة تعمل على استنساخ البشر لأغراض التبرع بالأعضاء

لقد وصل اندماجها ضمن دارات أدمغة الجرذان إلى مرحلة كافية تسمح لها بالسيطرة على سلوك الحيوان. وفي تجربة أخرى، قام الفريق بدفع الخلايا البشرية تحديداً إلى إطلاق الإشارات، وذلك باستخدام البصريات الوراثية، وهي تقنية تتضمن تسليط أشعة ضوئية على خلايا الدماغ التي تم تعديلها جينياً بحيث تستجيب للضوء. وبهذا، تمكن الباحثون من التأثير على محاولة الجرذان للحصول على مكافأة.

تقول المختصة بالجينات الجزيئية في جامعة تورونتو، والتي لم تشارك في البحث، يون لي: “إنها دراسة مهمة ورائعة للغاية. إن تحقيق النجاح في الكثير من هذه التجارب أمر مذهل فعلاً”.

يأمل باسكا بأن تساعد دراسة عضيات الدماغ البشري في الجرذان على فهم الأمراض البشرية. ففي تجربة أخرى، قام الفريق ببناء عضيات باستخدام خلايا مأخوذة من أشخاص يعانون من متلازمة تيموثي، وهي مرض جيني نادر يؤثر على القلب والدماغ. وبدت تلك العصبونات مختلفة عن العصبونات الطبيعية، كما بدا أنها تعمل بطريقة مختلفة أيضاً. ويعمل فريق باسكا على اختبار علاجات محتملة جديدة لهذه المتلازمة عند هذه الجرذان.

تقول الفيلسوفة والمتخصصة في الأخلاق في معهد ويس للهندسة المستوحاة من البيولوجيا في جامعة هارفارد، جينتين لونشوف: “إن نموذج الجرذ يقدم الكثير من المعلومات، ويزيد من فائدة العضيات الدماغية في معالجة الأمراض الدماغية عند البشر”.

اقرأ أيضاً: تعديل جين الكولسترول قد يوقف أخطر قاتل على وجه الأرض

هل هي جرذان خالصة فعلاً؟

ولكن، هل ما زالت الجرذان التي تحمل خلايا دماغية بشرية جرذاناً بالفعل؟ هذا يعتمد على من يجيب عن السؤال. فباسكا، ولي، ولونشوف، يعتقدون أنها ما زالت جرذاناً. فهذه الحيوانات لم يصدر عنها أي دلالة تشير إلى تحسن قدراتها البشرية، ولم تتصرف بطريقة مشابهة للبشر، كما يقول باسكا. فالدماغ البشري فائق التعقيد، وأكثر تعقيداً بكثير من دماغ الجرذ، حتى لو كان يحتوي على كتلة من الخلايا البشرية.

ولكن سافوليسكو يشير إلى أنها لم تعد جرذاناً، على مستوى الخلايا على الأقل. “السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما معيار تغيير الأنواع الحية؟” هناك درجة من الاتفاق على أن درجة ما من التغيير في السلوك أو الإدراك أمر ضروري.

اقرأ أيضاً: تشخيص طبي جيني بزمن قياسي باستخدام تقنية تسلسل الجينوم السريع

ولا توجد لدى سافوليسكو أي مخاوف أخلاقية حول هذه الدراسة، لأن عملية الزرع اقتصرت على كتلة صغيرة من الخلايا وحسب، وتم وضعها في جزء من الدماغ يتعامل مع استشعار البيئة المحيطة، ولا علاقة له بالوعي أو الإدراك. 

ولكن في المستقبل، يجب على العلماء أن يكونوا مدركين للعواقب المحتملة لزرع عضيات أكثر في مناطق أخرى من الدماغ. “إن هذه التجربة تطرح احتمال قيام الباحثين “بتخليق” جرذ متطور قد يحمل قدرات إدراكية أكبر مما لدى الجرذ العادي”.