النباتات والطيور بحاجة أيضاً إلى الخصوصية على شبكة الإنترنت

8 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يحب عاشقو الطيور إدراج قوائم للطيور التي يرصدونها على شبكة الإنترنت. منذ أيام، وبينما كنت أسير بجانب البحيرة في مدينة أوكلاند بولاية كاليفورنيا، رأيت طائر الطنّان “آنا” وبعض الأنواع المختلفة من طيور البرقش والغطّاس بالإضافة إلى طائر الدوري والرفراف والبلشون الأزرق والأبيض. وسرعان ما شرعت في تحميل تلك القائمة على “منصة إي بيرد” (eBird)، وهي عبارة عن مجتمع على الإنترنت يهدف إلى جمع ما يُرصد من الطيور والذي يتخذ “جامعة كورنيل” مركزاً له، وتُعتبر هذه المنصة أكبر أرشيف للبيانات المفتوحة في مجال يُعرف باسم “علم المواطنين” (citizen science) في العالم. جميع هذه الأنواع غير مهددة على نحو خاص، لذلك لم ينتابني إحساس سيئ بشأن مشاركة قائمتي. لكن لو كنت في منطقة تعاني فيها الطيور من أجل البقاء ورصدت نوعاً مهدداً، مثل ببغاء اللوري ذي العنق البنفسجي الذي يستوطن إندونيسيا، أو طائر فم الضفدع دوليت الذي يستوطن بورنيو، أو طائر السمنة ذي الأجنحة الذهبية الذي يستوطن فيتنام، لكنت فكرت مرتين قبل نشر هذه المشاهدات على “تطبيق إي بيرد”، الذي يضم ما يقرب من نصف مليون شخص محب للطيور والذين سجلوا حوالي 590 مليون مشاهدة للطيور منذ بدء المشروع في عام 2002.

المغزى من “منصة إي بيرد” هو مشاركة بيانات الطيور، حتى يتمكن محبو الطيور الآخرون من التمتع بالبهجة نفسها. لكن منذ عامين تقريباً، أي في أكتوبر/تشرين الأول 2017، خضع المشروع إلى إحدى أكبر عمليات الإصلاح على نظامه حتى الآن، إذ بدأ القائمون على تنظيم قاعدة بيانات المنصة بإخفاء الطيور المدرجة على نظامها والتي تُعتبر مهددة بالانقراض أو مهددة بأي نوع من أنواع الخطر. قال لي مارشال إيليف من خلال مقابلة معه، وهو قائد مشروع على “منصة إي بيرد”: “لقد بُنيت قاعدة البيانات بأكملها في الأساس من أجل مشاركة بيانات الطيور وإظهارها للجمهور على الخرائط، لقد سخّرنا في الواقع عشر سنوات من أجل عمليات التطوير والعلاقات العامة من أجل الطلب من المستخدمين إطلاعنا بالضبط على المكان الذي عثروا فيه على الطيور وذلك لتحقيق أقصى فائدة للعلم. وفجأة، وجدنا أنفسنا في هذا الموقف حيث أدركنا أنه يتعين علينا إخفاء طيور معينة”.

عندما يتعلق الأمر بالتمتع بالطبيعة على أرض الواقع، فإنّ مقصد معظم الناس في مشاركة تجاربهم عبر الإنترنت هي لغاية الاحتفاء بها. لكن هذا الإجراء الذي يُعتبر واسع الانتشار بصورة متزايدة يفتح المجال أيضاً أمام إساءة الاستخدام. لقد أُعيد بناء الهيكل الأساسي للتطبيقات وقواعد البيانات المصممة من أجل تحديد ورسم خرائط النباتات والطيور المحلية في السنوات الأخيرة لحجب الأنواع المهددة بالانقراض. إنها الطريقة الوحيدة لحمايتها من الصيادين الذين يتمتعون بالفطنة الكافية للاستفادة من مشاريع علم المواطنين القائمة على البيانات المفتوحة ومنتديات الطبيعة حيث يشارك عشاق الطبيعة الصور ومواقع النباتات والحيوانات مع زملائهم الآخرين.

على الرغم من قول إيليف إنه لم يسمع عن تقارير محددة حول استخدام بيانات “منصة إي بيرد” من قبل الصيادين، إلا أنه يصعب جداً من خلال بيانات مفتوحة معرفة ما الذي يفعله الأشخاص الذين يصلون إلى المعلومات. يتنهد إيليف قائلاً: “نحن نعلم بوجود تقارير متفرقة صادرة عن أشخاص في الأسواق الإندونيسية يقولون إن بعض صيادي الطيور كانوا على معرفة بـ “منصة إي بيرد” ويشيرون إلى هواتفهم قائلين: (هذا هو المكان الذي يعيش فيه الطائر)”. مضيفاً أنه وبحسب التقارير فإن الصيادين كانوا يتصرفون بدهاء من خلال تنزيل أصوات الطيور من مواقع أخرى مثل (xeno-canto.org)، وهي قاعدة بيانات لأصوات الطيور التي تتخذ أيضاً إجراءات احترازية من أجل حماية الأنواع المهددة. يحفز السوق الصيادين في إندونيسيا على سبيل المثال من خلال إمكانية بيع منقار أحد أنواع الطيور الذي يُطلق عليه اسم “أبو قرن”، بعنقه المطاطي الأحمر وبعينيه الثاقبتين بصورة ملحوظة والعرف الثمين الذي يشبه العاج، مقابل آلاف الدولارات. الآن، وبعد التغييرات التي أُجريت، يمكن للأشخاص الذين يرصدون الطيور تسجيل بيانات ذلك الطائر، ولكن تكون تلك البيانات غير قابلة للمشاركة.

لم يكن حجب أجزاء محددة من منصة مفتوحة أمراً سهلاً، فعلى مدار ثمانية أشهر تقريباً، أنشأت “منصة إي بيرد” خصائص حيث سمحت للشخص الذي أدخل بيانات الأنواع المحمية برؤيتها، وكذلك فريق مراجعة بيانات المنصة، ولكن لا أحد سواهم. وتضع “منصة إي بيرد” علامة على الطيور الموجودة في قائمة الأنواع المهددة، وهي المعرضة لخطر الإمساك بها واستهدافها وقتلها، أو المعرضة لخطر إلحاق الضرر بها في مواقع محددة. هناك المئات من الطيور المدرجة ضمن قائمة الطيور المهددة، وسيظهر عند إدراج تلك الأنواع أن الطائر موجود ضمن نطاق منطقة مساحتها 20 كيلومتراً مثلاً، ولكن لن يُسمح للمستخدمين بالانتقال إلى الموقع المحدد لرؤيته. وإذا شاركت قائمة الطيور الخاصة بك مع أحد الأصدقاء، فسوف تتمكن من رؤية الأنواع المهددة التي سجلتها فقط، ولن تظهر على القائمة المشتركة. ينطبق الأمر نفسه على صور الطيور المهددة وغيرها من الوسائل التي صممتها “منصة إي بيرد” لمشاركة بيانات رصد الطيور.

ليست الطيور هي الوحيدة التي تحتاج إلى الخصوصية على الإنترنت، ففي عام 2015، ألقي القبض على فريق إسباني مكوّن من شخص وزوجته بعد أن وجدهما حارس الحديقة مع شاحنة صغيرة خارج “محمية نيرسفلاكت الطبيعية” (Knersvlakte Nature Reserve) النائية بالقرب من وسط الساحل الغربي لجنوب أفريقيا. وعندما طلب الحارس النظر في حقائب الزوجين، وجد 49 نبتة من النبات العصاري الصغير الذي ينمو بين الصخر البلوري والذي يغطي الأرض القاحلة. اتضح أنّ الزوجين كانا يديران موقعاً سرياً (africansucculents.eu)، حيث باعوا نباتات مسروقة وفقاً لتقرير صادر عنمجلة ييل إنفايرونمنت 360 (Yale Environment 360). تعد منطقة نيرسفلاكت إحدى أغنى مناطق التنوع في العالم والتي تضم 1,500 نوع من النباتات، بما فيها أكثر من 150 نوعاً مهدداً بالانقراض.

بالرجوع إلى غرفة الضيوف الخاصة بلصوص النبات العصاري، اكتشفت السلطات أكثر من 2,200 نبتة من النوع العصاري والتي تبلغ قيمتها حوالي 100,000 دولار. بالإضافة إلى تلك الآلاف من النباتات، وُجد المئات من الأنواع المهددة بالانقراض، وقد كانت غرفة الزوجين أيضاً مليئة بأوراق البحث. وورد أن هناك صوراً وخرائط تفصيلية مطبوعة من مواقع التواصل الاجتماعي وقاعدة بيانات علم المواطنين “أي سبوت” (iSpot) المفتوحة على الإنترنت، بالإضافة إلى صفحات من مشروع المتحف الرقمي “جستور جلوبال بلانتس” (JSTOR Global Plants). بفضل الجهود الحسنة للأشخاص الذين ينضمون إلى مجتمع علم المواطنين ومشاريع البيانات المفتوحة، يمكن الآن تنزيل خرائط خلال دقائق، وذلك ما كان يستغرق سنوات في الجيل السابق لفعل الأمر نفسه.

في السنوات الأخيرة، شرعت مشاريع بيانات الحياة البرية الأخرى والتي افتتحت لغاية أساسية تتمثل في مشاركة أكبر قدر ممكن من البيانات حول عالم الطبيعة في التراجع أيضاً. فمثلاً، بدأ موقع “آي نتشراليست” (INaturalist)، وهو موقع لعلم المواطنين الذي يسجل مشاهدات لجميع أنواع الحياة البرية من نباتات وطيور وحشرات وأسماك، في إخفاء الأنواع المهددة بالانقراض في عام 2011، على الرغم من علمي بحسب ما أخبرني إياه كين إيتشي أويدا، وهو أحد مؤسسي ومدراء موقع “آي نتشراليست”، بأن تلك المسألة أُخذت بعين الاعتبار منذ بداية عام 2008. واليوم، يسجل موقع “آي نتشراليست” حوالي 135,000 عملية رصد شهرياً، ويُحجب منها حوالي 4,600 من بيانات مواقع تلك المشاهدات بسبب الإشارة إلى أن الحياة البرية مهددة. يقول أويدا، إن الضغط المتمثل في إخفاء النباتات والحيوانات المعرضة للخطر كان مدفوعاً بسبب إطلاق مشروع على موقع “آي نتشراليست” سُمي “جلوبال أمفيبيان بايوبلتز” (Global Amphibian BioBlitz) والذي يشجع على مشاركة بيانات المواطنين المتضمنة على صور للبرمائيات حول العالم من خلال المصادقة على عمليات الرصد وتسليط الضوء على المستخدمين الذين يسجلون أكبر عدد من الصور. حتى الآن، سجل أكثر من 11,000 شخص معروف الهوية ما يقرب من 300,000 عملية رصد. قبل إطلاق المشروع، أخبرني أويدا أنّ العديد من المجموعات التي كانت تتعاون مع موقع “آي نتشراليست” في عالم الحفاظ على البرمائيات، بما في ذلك “الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة”، كانت قلقة من أن المشروع لم يكن يُخفي بيانات الموقع وقد طلبت أن تكون قاعدة البيانات مهيئة بطريقة تحجب إحداثيات الحياة البرية المهددة قبل بدء التعاون.

إن إخفاء البيانات يضع مشاريع البيانات المفتوحة في مأزق واضح، إذ علّق أويدا على منشوري على “موقع فيسبوك” والذي كنت أتساءل من خلاله حول كيف تتعامل مشاريع علم المواطنين مع الأنواع المهددة وذلك ضمن “مجموعة كاليفورنيا نيتيف بلانت سوسايتي” (California Native Plant Society). “إن الكثير مما تعلمته عن التاريخ الطبيعي لولاية كاليفورنيا أتى من المعلومات التي شاركها الآخرون علانية على شبكة الإنترنت، وتمثل أحد أهدافي في تطوير موقع “آي نتشراليست” في تسهيل النوع نفسه من المشاركة بحيث يمكن للآخرين التعلم كما أفعل. إن إخفاء الأماكن التي توجد فيها الأنواع المهددة هو إخفاء للمعلومات في النهاية، وليس مشاركتها، لذلك أعتقد أنه من المهم أن يفهم الجميع أن هناك نوعاً من المقايضة، إذ كلما أخفيت بيانات قلت المشاركة، وبالتالي قلت الفائدة من المعلومات”.

إنّ قواعد البيانات الخاصة بالمهووسين بالطبيعة هي ليست الأسلوب الوحيد لعاداتنا على الإنترنت الذي يهدد الحياة البرية، إذ قد يكون التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي مدمراً أيضاً. إن الأزهار البرية في جنوب ولاية كاليفورنيا مذهلة جداً هذا العام، وقد تسببت بما يسميه مسؤولو مدينة “ليك إلسينور” “أزمة السلامة العامة”، إذ قدِم مئات الآلاف من الناس إلى مدينة صغيرة بجنوب ولاية كاليفورنيا لتصوير سلسلة نادرة من نبات الخشخاش التي ترسم سفوح التلات مع أزهار المشمش الصغيرة. تشتعل شرارة الهوس من خلال إثارة مشاعر الحسد من منشورات “موقع إنستغرام” العائدة إلى الأشخاص الذين يمرحون على الأزهار، الأمر الذي من شأنه سحق الأزهار تحت الأقدام أثناء مغامرتهم عبر الممر للحصول على تلك اللقطة المثالية تحت أشعة الشمس في ولاية كاليفورنيا، وذلك على الرغم من تقديم حراس الحديقة النصيحة لهم. وقد حدث أن حطّ زوجان بطائرة هليكوبتر على حقل من الخشخاش مؤخراً في محمية الخشخاش في وادي أنتيلوب من أجل التنزه، ومن المحتمل أن يكون ذلك قد قتل مئات من البراعم الجميلة التي رغب الزائران بمشاهدتها عند هبوطهم. يقول منشور حديث على صفحة فيسبوك تحت اسم “ليك ألسينور سيتي هول” (Lake Elsinore City Hall): “لقد استقدمنا العدد الممكن من الموظفين، حيث يتمثل عمل العديد منهم في ضبط سير الزوار خارجاً وذلك بالقدر الممكن، ولكن هناك المزيد من الحافلات التي تأتي، ومدينتنا الصغيرة لا يمكنها تحمل حشود بهذا الحجم”. أطلق عمدة مدينة ليك إلسينور على حدث قدوم حشود السياح الذين يأتون لرؤية الأزهار والذين لا يمكن السيطرة عليهم اسم “سِفر رؤيا نبات الخشخاش”، وفي الشهر الماضي اضطرت المدينة إلى إغلاق اثنين من المعابر بين الولايات لإبقاء السياح بعيداً، وأعلنواعن تلك الإجراءات على “موقع إنستغرام” تحت هاشتاغ #Poppyshutdown و#IsItOver وPoppyNightmare#.

ما زال استخدام الإنترنت كوسيلة لتدمير الأزهار البرية محصوراً حتى عام 2019، ولكن كل هذا هو نتيجة حتمية للطريقة التي أصبحت فيها حياتنا متمحورة حول الإنترنت. ربما يكون الإنترنت هو الأفضل في جعل العالم يبدو أصغر بكثير من الواقع. إن نشر عجائب الطبيعة، مثل أزهار ولاية كاليفورنيا الرائعة، التي تغذيها الصور المغطاة بأشعة الشمس على “موقع فيسبوك” و”موقع إنستغرام”، تجذب الآلاف من المتفرجين والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي والذين يدوسون على الأزهار ويثيرون سؤالاً أكبر حول كيف يمكننا أن نكتشف الطبيعة من غير تدميرها دون قصد؟ عندما نشارك صورة عبر الإنترنت لمكان أو طائر أو زهرة نحبها، فإننا نشارك تجربتنا معها. ولكن حتى بينما نهدف إلى نشر الجمال، ينبغي علينا أيضاً الأخذ بعين الاعتبار حقيقة الهشاشة التي يسببها الإنسان لعالمنا الطبيعي المتدهور باستمرار، وقد يعني هذا أحياناً عدم مشاركة كل شيء.

تُعد منطقة شمال ولاية كاليفورنيا حالياً في خضم أزمة سرقة النبات العصاري الذي ينمو فيها، ويُطلق على تلك الجواهر التاجية التي يتبعها اللصوص اسم (Dudleya farinosa)، وهي على شكل وردة أوراقها سميكة مغمورة بأوراق وردية وذات ساق مزهر أصفر غريب يرتفع عن مركزها. وعندما تنضج، يمكن أن يصل سعرها إلى 100 دولار وتُعتبر رائجة حالياً في كوريا الجنوبية، حيث يعرضها الناس كزينة على حواف النوافذ. هذا هو السبب الذي يكمن وراء سرقتها من قبل الأشخاص الذين يسافرون غالباً ويحملون صناديق كرتونية ويستأجرون غرفة في فندق ويقضون أيامهم في البحث عن النبات العصاري قبالة جروف المحيط. أخبرني ستيفن مكّيب، وهو خبير في نبات الـ”dudleya” ومدير البحوث الفخري في معرض النباتات في جامعة “كاليفورنيا – سانتا كروز”، أنه يتم اقتلاع آلاف النباتات من الأرض شهرياً. والتي يُقدر عمر الكثير منها عقوداً وبعضها الآخر يصل عمرها إلى 100 عام. وأضاف مكّيب، وهو الذي يساعد أيضاً في إنفاذ قوانين تحدد النباتات التي تتعرض للسرقة، أنه على الرغم من عدم سماعه عن أشخاص يستخدمون المشاهدات الموجودة على مشاريع علم المواطنين على وجه التحديد، إلا أنه قال أنه قد طُلب منه على منتديات النباتات على الإنترنت المساعدة في اكتشاف الأنشطة المشبوهة. ويقول: “رأيت منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كان هناك شخص يبحث عن أسماء نباتات تبدو برية. ثم دخلت إلى “موقع إيباي” لأجد أن ذلك الشخص كان يبيعها. وعندما قلت له أنني لن أساعده، توقف عن النشر واختفى”. هذه هي الوسيلة السيئة المتعلقة بالإنترنت، إنها مجرد أداة، وما يهم حقاً هو كيف نستخدمها.