تطبيقات التوصيل تؤثر على أسلوب الحياة في مدن الهند الضخمة

15 دقيقة
تطبيقات التوصيل تؤثر على أسلوب الحياة في مدن الهند الضخمة
داخل متجر مظلم في دونزو ديلي. أبارنا نوري
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

من السابعة صباحاً حتى ما بعد الغسق بكثير، وعلى مدار الأسبوع، يجلس إن. سوداكار خلف طاولة متجره الصغير للبقالة في مدينة بنغالور في جنوب الهند. يؤمن هذا المتجر الشامل معظم الحاجات اليومية للكثير من سكان الحي، فهو مكتظ من الأرض حتى السقف بالعديد من البضائع والسلع، بدءاً من أكياس الأرز التي يبلغ وزن الكيس الواحد منها عشرين كيلوغراماً، وصولاً إلى أكياس الشامبو الصغيرة التي يبلغ سعر الواحد منها روبية واحدة (0.01 دولار). ويمثل هذا المتجر نسخة شبه مطابقة لما يقارب 12 مليون كيرانا تديره العائلات على جميع زوايا شوارع الهند تقريباً.

يقع هذا المتجر في شارع مزدحم في مقاطعة وايتفيلد، والتي كانت ضاحية هادئة من قبل، ولكنها تحولت الآن إلى مركز تجمع ضخم لصناعة تكنولوجيا المعلومات المزدهرة في المدينة. وعندما افتتح سوداكار – والذي يبلغ من العمر الآن 49 عاماً- هذا المتجر، كانت المكاتب قد بدأت بالظهور. وتزايدت وتيرة العمل بسرعة بفضل تدفق عمال البناء، متبوعين بموظفي تكنولوجيا المعلومات. والآن، تخيم مباني الشقق السكنية على متجره من الخلف، وهي تُؤوي المئات من العمال الموظفين في المجمعات التكنولوجية التي تهيمن على المنطقة المحيطة.

اقرأ أيضاً: تطبيقات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والبلوك تشين في تحسين سلاسل التوريد الغذائي

وفي هذه الأيام، تحولت صناعة التكنولوجيا ذاتها التي ساعدت عمل سوداكار على الازدهار إلى مشكلة جديدة بالنسبة لمتجره والمتاجر المماثلة. فعلى الجهة الأخرى من الطريق، يصطف طابور متواصل من سائقي التوصيلات لاستلام البقالة من متجر مخفي، وهو مستودع صغير يقع في قلب المدينة، وقد بُني لتسهيل عمليات التوصيل فائقة السرعة. تقوم شركة دنزو (Dunzo) الناشئة في بنغالور بإدارة هذا المستودع، وقد بلغت خدماتها درجة عالية من الانتشار لدرجة أن اسم الشركة تحول (لغوياً) إلى فعل بحد ذاته، فسكان بنغالور الذين يحتاجون إلى توصيل شيئ ما عبر المدينة سوف يدنّزونه، مستخدمين تطبيق الشركة لحجز ساعٍ على الدراجة النارية على الطلب. 

تطبيقات التوصيل تؤثر على أسلوب الحياة في مدن الهند الضخمة
يتم توضيب الطلبات في منشأة دنزو ديلي باليد، ولكن الآلات تقدم بعض المساعدة، حيث تستخدم التعرف على الصور لتنفيذ عملية تقييم آلية لجودة المنتجات الطازجة. مصدر الصورة: أبارنا نوري

تتيح دنزو للمستخدمين طلب إحضار الأغراض من المتاجر القريبة، ولكنها دخلت مؤخراً سوق التوصيل الفوري للبقالة، والتي تنمو بسرعة كبيرة. إنه فضاء يزداد اكتظاظاً يوماً بعد يوم. وعلى غرار أساليب الشركات الغريبة التي توصل الأغراض الأساسية اليومية إلى المنازل، مثل إنستاكارت (Instacart) وغوبوف (Gopuff) وغوريلاز (Gorillas)، تسعى عدة شركات محلية إلى اقتطاع حصة من سوق البقالة الهندية التي تبلغ قيمتها 620 مليار دولار، وتعد الكثير منها بألا يتجاوز وقت التوصيل عشر دقائق. وتعمل الشركات في الكثير من الحالات على تحقيق هدف واضح وصريح، وهو الاستيلاء على جزء من حصة متاجر الكيرانا من مشتريات الاستكمال التي يقوم بها العملاء بين جولات التسوق لشراء الأغراض بالجملة وبكميات أكبر.

ولكن ما زال أمامها طريق طويل. ففي الوقت الحالي، تمثل متاجر الكيرانا أكثر من 95% من سوق البقالة في الهند، وذلك وفقاً لبحث تم نشره في مارس/ آذار من قبل الشركة الاستشارية ريدسير (Redseer). وما زالت المتاجر الكبيرة (السوبرماركات) العصرية تمثل فقط 4% تقريباً، على الرغم من أنها ظهرت لأول مرة منذ 30 سنة، كما أن خدمات البقالة على الإنترنت لم تتجاوز حاجز نسبة 1% على مدى عقد كامل. يعيش ما يقرب من ثلثي سكان الهند، والبالغ عددهم 1.3 مليار نسمة، في مناطق ريفية ما زالت إلى حد كبير خارج نطاق الشركات العصرية للتجارة بالتجزئة. 

ولكن في مدن الهند الضخمة، يمكن أن يحدث التغيير بسرعة. فقد تعودت الطبقة الوسطى الحضرية على التسوق على الإنترنت بعد سنوات عديدة من عمليات التسويق الحثيثة والحسومات الحادة من كبريات شركات التجارة الإلكترونية مثل أمازون (Amazon) وشركة فليبكارت (Flipkart) المحلية، إضافة إلى فترة ثقيلة الوطأة من إجراءات الحجر الصحي بسبب كوفيد. ومع أن هؤلاء المتسوقين يمثلون جزءاً صغيراً من السكان، إلا أن قدرتهم على الإنفاق كبيرة، ما يعني اندلاع المعركة على تجارة التجزئة لأصحاب الجيوب العامرة من سكان المدن الهندية الكبيرة.

اقرأ أيضاً: أمازون تراقب سائقي شاحنات التوصيل بكاميرات ذكية

لا يكترث سوداكار بالنشاط المحتدم على الجهة الأخرى من الشارع قبالة متجره، ويقول إنه لا ينظر إلى دنزو ومثيلاتها كخطر مباشر. ولكنه يعترف بأن نحو نصف زبائنه أصبحوا الآن يتسوقون على الإنترنت، ويخشى من عواقب هذا التوجه على عمله وعمل الآخرين من أمثاله في المستقبل. ويقول: “سيؤثر هذا علينا. فاستثماراتهم كبيرة. ولديهم المزيد من الأموال. ولديهم شبكة أفضل”.

مؤسسة هندية

ليس الكيرانا مجرد متجر عادي، كما يقول ب. س. ناجيش، وهو مؤسس الأمانة الهندية للعاملين في تجارة التجزئة ومجالات ذات صلة بتجارة التجزئة (اختصاراً تراين (TRRAIN))، وهي مؤسسة خيرية تدعم العاملين في تجارة التجزئة. وتتميز هذه المؤسسة بصلات قوية مع المجتمعات المحلية، وعادة ما تخدم في مكان واحد ما لا يتجاوز مئة عائلة. “لقد ترعرع الكثيرون منا مع الكيرانا. وتمثل بالنسبة لنا امتداداً لمطبخ المنزل” كما يقول. “إن صاحب المتجر يعرفنا بأسمائنا، ويعرف عائلاتنا. وليس مجرد شخص يقدم خدمة، بل يمكن أن يقدم المساعدة وقت الحاجة. لقد أصبحت الكيرانا جزءاً مهماً من المجتمع”.

هذه الصلة الوثيقة مع الأحياء تتيح للكيرانا تقديم خدمة أساسية للكثير من الزبائن: الائتمان. حيث يقوم صاحب المتجر بتسجيل المشتريات ضمن دفتر ملاحظات صغير يسمى باي خاتا، وعادة ما يتم تسديد الديون أسبوعياً أو شهرياً. تعتمد قطاعات كبيرة من الاقتصاد الهندي في عملها على هذا النوع من الائتمان غير الرسمي، كما يقول أستاذ دراسات الإدارة في معهد روركي الهندي للتكنولوجيا، راجات أغاروال، وغالباً ما يمثل تدفق المال النقدي مشكلة.

 

مؤسسة هندية
يدير جايابا س. متجرَي كيرانا على حدود منطقة إتش إس آر لاي آوت (HSR Layout)، وهي منطقة في جنوب بنغالور، وقد تحولت إلى مركز للشركات الناشئة. مصدر الصورة: أبارنا نوري
مؤسسة هندية
زوجة جايابا، شانكاراما، كانت تعمل في صناعة الملابس، وتقوم بخياطة البلوزات لدعم دخلها من مبيعات المتاجر.
مؤسسة هندية
يتفحص جايابا دفتر باي خاتا (دفتر الحسابات) الخاص به، والذي يدون فيه ديون الزبائن المنتظمين.

يقول ناريندرا غوبتا، والذي يدير متجر كيرانا مع شقيقه في مدينة كولار، وهي مدينة صغيرة تبعد ساعتين تقريباً عن بنغالور: “إن هذا العمل أشبه بأداء خدمة”. كانت غاياثري براساد تتبضع من كيرانا غوبتا على مدى 15 سنة، وترفض شراء الأغراض من أي مكان آخر. وتقول: “إنهما أشبه بشقيقين لي”. وعندما عجزت براساد عن تأمين المال لما يقارب الشهر، كان الشقيقان غوبتا يسمحان لها بأخذ ما تحتاجه، وتأجيل الدفع حتى يصبح ممكناً لها. تقول عالمة الاجتماع في جامعة غورو ناناك ديف، راتشانا شارما: “تلبي الكيرانا احتياجات جميع الطبقات”. وهذا لا ينطبق على متاجر التجزئة العصرية، والتي تقول شارما إنها غالباً ما تستبعد الطبقة الفقيرة.

اقرأ أيضاً: كيف سيؤدي التعلم الآلي إلى تسريع “آخر خطوة” من عمليات التوصيل

ويقول أغاروال إن المعلومات الدقيقة التي تمتلكها هذه المتاجر عن زبائننا يمكن أن تكون محط حسد بالنسبة لأي فريق مختص بعلم البيانات في التجارة الإلكترونية. وفي بلاد توجد فيها ست ديانات رئيسية، و121 لغة، والآلاف من الطوائف، لكل منها عاداتها ونظامها الغذائي وتقاليدها، فإن معرفة الزبائن أمر جوهري. ولهذا، فإن البضائع التي يخزنها متجر الكيرانا تتوافق بدقة مع تركيبة الأحياء المحيطة. ويقول: “على الرغم من عدم استخدام أي من تقنيات تنقيب البيانات، فإن هذه المتاجر تقوم مسبقاً، وبطريقتها البدائية الخاصة، بإجراء عمليات تحليل لفهم حاجات العملاء”.

وعلى الرغم من نقاط القوة الفريدة التي تتمتع بها متاجر الكيرانا، فإن عدداً متزايداً من الشركات يعتبر أن هذا النظام أصبح جاهزاً للزعزعة. يقول مستشار الأعمال في ريدسير أبيشيك غوبتا إن صناعة البقالة عبر الإنترنت نمت بسرعة انطلاقاً من قاعدة صغيرة نسبياً، حيث انتقلت من 500 مليون دولار في 2016 إلى 5.5 مليار دولار بحلول العام 2021. وقد نجم هذا النمو بشكل أساسي عن الهنود سكان المناطق الحضرية، والذين انتقلوا إلى التسوق الأسبوعي بكميات كبيرة على الإنترنت. ولكن الآن، يستشعر البعض فرصة في اقتحام مجال مشتريات الاستكمال الأصغر والأكثر تكراراً (عمليات شراء لدعم مخزونات توريد صغيرة)، والتي يقول غوبتا إنها تشكل 60% إلى 70% من متوسط مدخول الكيرانا.

ولكن دخول هذه السوق يتطلب مقارنة مختلفة كلياً. عادة ما يتم تخزين البضائع التي يتم شراؤها عبر الإنترنت في مستودعات ضخمة على أطراف المدن، ويتطلب شحنها إلى العملاء عدة ساعات أو أيام. ويتطلب اقتحام نطاق الكيرانا بناء شبكة من “المتاجر المخفية” في أعماق البيئة الحضرية، ما يتيح توصيل الأغراض إلى الزبائن بسرعة تفوق الوقت الذي يحتاجه العميل للمشي إلى المتجر المحلي. ويقول غوبتا: “للمرة الأولى، بدأت التجارة السريعة بإحداث أثر في الإنفاق في متاجر الكيرانا”. ووفقاً لتقديرات ريدسير، فإن قيمة هذا القطاع يمكن أن تصل إلى 5 مليار دولار خلال 5 سنوات.

وهكذا، أطلقت هذه الفرصة موجة جنونية من العمل والاستثمارات. فقد قررت شركة زيبتو (Zepto) الناشئة، والتي أسسها اثنان من الطلاب الذين تركا دراستهما في جامعة ستانفورد، أن تخرج من الظل في نوفمبر/ تشرين الثاني مع وعد بتوصيل البقالة خلال 10 دقائق، وجمعت من الاستثمارات ما وصل إلى 360 مليون دولار منذ ذلك الحين. وفي ديسمبر/ كانون الأول، قالت شركة توصيل الطعام الهندية العملاقة سويغي (Swiggy) إنها ترغب باستثمار 700 مليون دولار في شركتها الجديدة المتخصصة بالبقالة إنستامارت (Instamart)، كما قامت شركة تسويق البقالة على الإنترنت غروفرز (Grofers) باتخاذ اسم تجاري جديد بلينكيت (Blinkit)، وتخلت عن خدمة التوصيل العادية لصالح خدمة توصيل مضمون خلال 10 دقائق. أما شركة أولا (Ola)، وهي المنافس الرئيسي لشركة أوبر (Uber) في الهند، فقد انضمت إلى موجة الدقائق العشر في يناير/ كانون الثاني، وأعلنت عن خطط لتوسيع شبكتها من المتاجر المخفية إلى أكثر من 500 على مدى الأشهر الستة المقبلة. وسبق لشركة دنزو أن أطلقت خدمة دنزو ديلي في يونيو/ حزيران المنصرم، ولكنها أعلنت في مارس/ آذار إنها ستزيد من عدد متاجرها المخفية إلى 200، أي أكثر من الضعف.

وعلى الرغم من أن أكبر شركة لتسويق البقالة على الإنترنت بيغ باسكيت (BigBasket) كانت أبطأ من غيرها في تقبل الفكرة، فقد أطلقت خياراً للتوصيل خلال 10 دقائق في أبريل/ نيسان. ويقول رئيس قسم الشراء وتسويق السلع سيشو كومار إن الشركة جربت الدخول في مجال التجارة السريعة منذ ثلاث سنوات بخدمة تجريبية لتوصيل السلع خلال ساعة واحدة، ولكنها ألغت الفكرة عندما لم تحقق الزخم المطلوب. وبعدها، أتى الوباء. ويقول: “نظراً لإغلاق متاجر كيرانا، وفرض إجراءات الحجر في الكثير من المناطق، لم يعد أمام الزبائن خيار آخر سوى تجربة التجارة الإلكترونية”.

اقرأ أيضاً: إجراءات الحجر في شنغهاي تمثل فرصة جديدة لتطبيقات البقالة الصينية

وعلى الرغم من عودة معظم المستهلكين إلى التسوق بشكل شخصي مع رفع إجراءات الحجر، فقد فضل الكثيرون الحفاظ على عادة التسوق الإلكتروني. يقول المسؤول التكنولوجي الأساسي لشركة شادوفاكس (Shadowfax)، والتي تؤمن الدعم اللوجستي لعدد من أهم شركات التجارة الإلكترونية الهندية، فايباف خانديلوال: “الآن، أدرك الناس أن الشركات الناشئة لتوصيل السلع خلال 10 دقائق لتلبية الاحتياجات على الفور يمكن في الواقع أن تؤدي دور الكيرانا المحلي”.

إنه عبء لوجستي ضخم. ويقدّر خانديلوال إن كلاً من الشركات الكبيرة تشغل عدة مئات من المتاجر المخفية عبر أكبر المدن في البلاد. وحتى مع هذا الانتشار واسع النطاق، فإن ضمان التوصيل في الوقت المناسب يتطلب عمليات سلسة في توضيب البقالة، وتنبؤاً دقيقاً للطلب وفق أحدث التقنيات لإرسال سائقي التوصيلات إلى المكان الصحيح في الوقت المناسب. كما أن أماكن المتاجر المخفية أمر في غاية الأهمية.

مؤسسة هندية
ن. سوداكار في متجره في بنغالور. مصدر الصورة: أبارنا نوري

يقول الرئيس التنفيذي لزيبتو آديت باليتشا: “يمثل تصميم الشبكة نواة النظام بأكمله”. ويهدف التصميم إلى الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الزبائن من الشريحة المستهدفة مع الحفاظ على قيمة 1.8 كيلومتراً كمتوسط لمسافة التوصيل. وعلى حين تقوم متاجر السوبرماركت التقليدية بتخزين عشرات الآلاف من المنتجات، فإن شركات التجارة السريعة أدركت أن معظم المشتريات تتركز على مجموعة أصغر بكثير. إنه عمل يتطلب توازناً دقيقاً لضمان تلبية احتياجات الزبائن، كما يقول باليتشا، ولكن شركته وجدت أن 3,000 منتجاً تقريباً تكفي لتغطية احتياجات التسوق للعملاء بصورة شبه كاملة.

ولكن السرعة وتشكيلة المنتجات ليست المعايير المهمة الوحيدة، كما يقول الرئيس التنفيذي لشركة دنزو كابير بيسواس. فالناس يختارون متجراً معيناً ويلتزمون به لأنهم يثقون بجودة السلع التي يعرضها. 

ويقول: “نمضي أغلب الوقت في مؤسستنا في السعي نحو تقديم أفضل المنتجات”. تستخدم الشركة التعرف على الصور لإجراء عملية تقييم آلي لجودة المنتجات الطازجة. كما تعمل مع الشركة الناشئة زينس لابس (Qzense Labs) المختصة بأجهزة الاستشعار على إنتاج مجموعة من أجهزة الاستشعار لقياس صفات مثل مستوى النضج والحلاوة والفساد في الفاكهة.

إن الهدف بعيد الأمد لهذه الشركة يتسم بدرجة عالية من الطموح. ففي مارس/ آذار، بدأت الملصقات بالظهور في أنحاء بنغالور وهي تحمل صورة ثلاجة مع الجملة التالية: “تخليداً للذكرى العزيزة للسيد سري فريدجيش كولكاني، 1854-2022”. لقد كانت حملة تسويق مركزة من دنزو للإيحاء بأن التوصيل الفوري للبقالة سيجعل الثلاجة عديمة النفع في القريب العاجل.

يقول باليتشا: “يمكنك أن تقرر ما ستعدّ للعشاء قبل 10 دقائق من البدء بالطهي”. تهدف الشركة إلى إحداث تغيير جذري في سلوك المستهلك، وذلك بإزالة الحاجة إلى التخطيط للمشتريات، كما يضيف: “عندما تقدم لشخص ما زراً يمكن أن يضغط عليه للحصول على ما يريد خلال 10 دقائق، فسوف يضغط على هذا الزر عدداً أكبر من المرات”.

اقرأ أيضاً: هل تصدق أن فواتير البقالة يمكنها أن تتنبأ بمعدلات مرض السكري لدى سكان الحي؟

وبالنسبة للبعض، يبدو هذا الأسلوب ناجحاً. فقد كان أرشاد أيوب، بعمر 33 سنة، يتسوق مرة في الأسبوع في سوبرماركت كبير، ويعتمد على المتاجر المحلية لشراء الخضار والحليب والخبز في الفترات الفاصلة. ولكن، وبعد تجربة زيبتو للمرة الأولى في أبريل، غيّر من أسلوب شرائه للبقالة. ويقول: “بدلاً من شراء كميات كبيرة، نشتري ما نحتاجه فقط يومياً، ونطلبه لنحصل عليه خلال 10 دقائق”. “ولم أحتج يوماً إلى أي شيئ ووجدت أنني مضطر للذهاب إلى متجر محلي”.

نظرة واقعية

يقول مؤسس شركة تكنوباك (Technopak) الاستشارية التي تعمل في الهند أرفيند سينغال إنه ليس من المفاجئ أن تسعى شركات التجارة الإلكترونية إلى الدخول في مجال البقالة، بما أن تجارة البقالة تمثل ثلثي الإنفاق الإجمالي السنوي على شراء السلع في الهند. ولكن هذا الإنفاق يمتد عبر ما يقارب 8,000 بلدة و6,000 قرية، وتقع الأغلبية الساحقة منها خارج نطاق التسوق عبر الإنترنت. ويقول: “إن سوق البقالة الغذائية الهندية جذابة من حيث الأرقام المجردة، ولكنها مجزأة على الأرض لدرجة تجعل من شبه المستحيل التعامل معها وفق هيكلية موحدة. وأي شخص يزعم أن متاجر الكيرانا أصبحت في وضع حرج، لا يفهم أي شيئ عن الهند”.

تقول شركات التجارة السريعة إنها تركز على الطبقة الثرية من المدينة في الوقت الحالي، ولكن فعالية النموذج ما زالت غير مؤكدة حتى بالنسبة لهذه الطبقة. فمن ناحية، تجني سلاسل السوبرماركت الكبيرة في الهند أرباحاً قبل احتساب الضرائب بنسبة 5 إلى 6% فقط، كما يقول غوبتا من ريدسير، على الرغم من عدم وجود تكاليف توصيل، إضافة إلى استفادتها من صفقات جيدة من الموردين بسبب حجم المشتريات الضخم. وحتى لو تمكنت شركات التجارة السريعة من الوصول إلى مستويات مماثلة، فإن المتطلبات اللوجستية الإضافية تعني أن هامش أرباحها لن يتجاوز 2 إلى 3%. وفي الوقت الحالي، فإن هذه الشركات بعيدة كل البعد عن أي نوع من الأرباح. يقول غوبتا إن هذه الشركات تخسر قيمة وسطية تتراوح من 15 إلى 25 روبية من أجل كل طلب تتلقاه بقيمة 100 روبية.

اقرأ أيضاً: لماذا تمثل المنصات المحرك الأساسي للاقتصاد الدائري؟

وقد بدأت آثار الخسائر بالظهور. فبعد مرور أقل من أربعة أشهر على إعلان شركة أولا عن دخولها في مجال التجارة السريعة، قررت تقليص طموحاتها، وسرحت 2,100 عاملاً في متاجرها المخفية في أبريل/ نيسان. وفي مارس/ آذار، وجدت بلينكيت نفسها في حالة عجز مالي حاد، لدرجة أنها اضطرت إلى اقتراض 150 مليون دولار من شركة توصيل الغذائيات زوماتو (Zomato)، إحدى الشركات الأساسية المستثمرة فيها.

نظرة واقعية
مصدر الصورة: أبارنا نوري
نظرة واقعية
مالك الكيرانا شرف الدين في متجره في تشارماجبيت، وهو حي في بنغالور. تسلم شرف الدين إدارة المتجر من والده منذ نحو 15 سنة. مصدر الصورة: أبارنا نوري
نظرة واقعية
مصدر الصورة: أبارنا نوري

يقول سينغال أيضاً إنه ليس من الواضح ما هي المشكلة التي تحلها هذه الشركات، بما أن معظم متاجر الكيرانا تستلم الطلبات عبر واتساب، وتوصلها إلى منازل الزبائن. ويقول إن التفسير الوحيد هو الجشع العالمي للشركات التي تحاول استغلال الفرص الاستثمارية وزيادة رأسمالها في زمن معدلات الفائدة المنخفضة. ويضيف قائلاً: “بالنسبة لي، فإن كل هذا الحماس يعود إلى ضغوط مالية شديدة، ما يرغم رواد الأعمال على اتخاذ قرارات تناقض المنطق الاقتصادي السليم”.

يقول الشريك في شركة ديلويت إنديا (Deloitte India)، أناند راماناثان، إنه توجد بضعة دلائل تشير إلى قرب نفاد التمويل. فقد كان المستثمرون يضخون الأموال في الشركات الناشئة الهندية على مدى عقد كامل على الأقل، مسارعين للحصول على موطئ قدم في دولة يمكن أن تصل قيمة سوقها الاستهلاكية الإجمالية إلى 6 تريليون دولار بحلول العام 2030، وذلك وفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي. ويقول: “ولكن، هل يستطيع أي من هذه النماذج جني الأرباح؟ وهل هي نماذج مستدامة؟ إنها حتى ليست قريبة من هذا”. “وكل ما يجري مجرد لعبة للاستحواذ على المستهلكين”.

ولكن الهند تتمتع فعلاً ببعض المزايا التي تجعلها أفضل للتجارة السريعة من البلدان الغربية. فالهنود يشترون البقالة بشكل أكثر تكراراً من المتسوقين في العالم المتطور، كما يقول باليتشا من زيبتو، كما أن الازدحام الشديد في المدن يسهل عملية الوصول إلى عدد كبير من العملاء من متجر مخفي واحد. ويقول: “يعتمد هذا النموذج على الكثافة العالية”.

اقرأ أيضاً: لأول مرة: هيئة التجارة الفيدرالية الأميركية تحظر إحدى الشركات من بيع برامج التجسس 

وتشير الأدلة إلى أن متاجر الكيرانا في بعض من أكبر مدن الهند بدأت تشعر بوطأة المنافسة. ففي الأحياء السكنية على حدود إتش إس آر لاي آوت –وهي ضاحية جديدة وواعدة في جنوب بنغالور، وقد ظهرت كمركز تجمع كبير للشركات الناشئة- أجمع أصحاب المتاجر على أن التسوق عبر الإنترنت يؤثر على أرباحهم. ويقول أشرف بانتشيهار إن أرباح متجره تراجعت بنسبة 20% خلال الأشهر الستة الفائتة. ويضيف قائلاً: “تظهر الشركات الجديدة يومياً. ومن المستحيل أن ننافسها”.

وعلى الرغم من أنه من المستبعد أن تتعرض متاجر الكيرانا إلى انهيار شامل في المدى المنظور، فقد تشهد بعض الانكماشات المحلية. وهو ما يمكن أن يؤدي إلى ما يعرف باسم استبعاد البنى التحتية، كما يقول المختص بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) في جامعة نورث كارولينا في تشابيل هيل آرون شابيرو. ففي الغرب، أدت النقلة من المتاجر المحلية في الأحياء إلى متاجر السوبرماركت الضخمة إلى هجر الشركات لما أطلقت عليه الأسواق الجافة في المناطق الأكثر فقراً، ما أدى إلى نشوء ما يُطلق عليه صحاري الغذاء، حيث يصعب على السكان الحصول على البقالة الصحية ومعقولة الثمن. وفي الهند، يمكن أن تتخذ هذه الظاهرة شكلاً فريداً. ويقول زبون منتظم لدى أحد متاجر الكيرانا في تشامراجبيت، محمد رياز، إن المتجر كان بمثابة شريان حياة للزبائن الأقل براعة في التكنولوجيا خلال فترات الحجر. ويقول: “إنهم ليسوا متعلمين، ولا يعرفون كيفية إرسال طلب عبر الإنترنت”.

ومن المخاوف الأخرى: التأثير على سائقي التوصيلات. حيث يتصف اقتصاد الهند بأنه غير رسمي بنسبة تتجاوز 80%، ما يعني أن العمال لا يعملون بموجب عقود عمل رسمية، وليسوا محميين بقوانين العمال. وبالتالي، وبالنسبة للكثير من الهنود، فإن العمل المؤقت لا يختلف كثيراً عن البدائل الأخرى. ولكن تقلبات الأجور بسبب عشوائية العمل والدخل المبني على الحوافز ما زالت مسائل مزعجة بالنسبة للكثير من عمال الوظائف المؤقتة، كما تقول عالمة الاجتماع في المعهد الهندي للتجمعات البشرية (IIHS) أديتي سوري. وتضيف: “في الواقع، فإن هذا الوضع يثير لدى العمال شعوراً داخلياً بعدم الاستقرار. فلا توجد هناك وسيلة لحساب تغيرات الأجور في الشهر المقبل”.

وقد قال أحد سائقي التوصيل لدى دنزو، والذي لم يرغب في الكشف عن اسمه، إنه لا يمانع العمل، كما أنه يعمل بنظام مناوبات مدتها 12 ساعة بصورة متكررة. ولكن كل هذا الجهد لا يفيد ما لم يتمكن من الوصول إلى هدف محدد يبلغ 21 طلباً في اليوم، ما يزيد أجوره بنسبة 50% تقريباً. ويقول: “إن هذا العمل إهدار للوقت ما لم أحصل على الحوافز. فعندها، تضيع كل جهودي عبثاً”. وعادة ما يتمكن من تحقيق الهدف من 8 إلى 10 أيام في الشهر.

يد المساعدة

إذا كانت الهند تحتوي في المقام الأول على شبكة تجارة تجزئة واسعة الانتشار على المستوى المحلي، وتعمل بدقة وفق احتياجات كل تجمع سكاني، فما الداعي إلى إنفاق الأموال لبناء شبكة جديدة؟ لقد قررت مجموعة من شركات الكيرانا التكنولوجي الناشئة أنه لا داعي لهذا فعلاً. وبدلاً من هذا، تعمل هذه الشركات على بناء الأدوات التي تسمح للمتاجر بالتنافس مع شركات تجارة التجزئة الضخمة والحديثة. يقول الرئيس التنفيذي لشركة التكنولوجيا الرقمية سناب بيز (Snapbizz) بريم كومار: “نحن ننظر إلى شبكة متاجر الكيرانا في هذه البلاد على أنها بنية تحتية وطنية تكافئ ربما في أهميتها شبكات الطاقة أو شبكات السكك الحديدية”.

وتساعد منتجات شركته متاجر الكيرانا على متابعة المخزون، وتقبل الدفعات الرقمية، وإدارة الائتمان مع الزبائن والمزودين. ويمكن الاستفادة من الخدمات الأساسية عن طريق تطبيق على الخليوي، ولكن شركته أيضاً تقوم بتأجير ماسحات باركود مع جهاز دفع إلكتروني محمول باليد أو كمبيوتر محاسبة بشاشة لمسية. أيضاً، يمكن لمتاجر الكيرانا استقبال الطلبات على الإنترنت عبر تطبيق، وتتمتع الشركة بعلاقات مع علامات تجارية كبيرة للترويج للسلع التي تبيعها المتاجر.

اقرأ أيضاً: في عصر مغامرات الذكاء الاصطناعي: كيف تكسب البنوك ثقة عملائها وتقدم تجربة عملاء فريدة؟

ومن العوامل المهمة التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند تصميم حل تكنولوجي للكيرانا هي الحفاظ على البساطة، كما يقول الرئيس التنفيذي لشركة خاتابوك (Khatabook) التي تنتج تطبيقاً للهواتف المحمولة يؤدي دور دفاتر الملاحظات المستخدمة لتسجيل المشتريات بالدين، رافيش ناريش. يقوم التطبيق آلياً بتحصيل الديون وإرسال تذكيرات بالدفع إلى العملاء. 

وترغب شركات أخرى بالدخول في شبكة الكيرانا لتوفير الخدمات المالية للعملاء. وعلى سبيل المثال، تؤمن شركة باي نيرباي (PayNearby) للكيرانا تطبيق موبايل مع قارئ بطاقات صغير لقبول الدفعات الرقمية. كما تحول هذه المتاجر إلى ما يشبه البنوك المحلية في الأحياء، كما يقول الرئيس التنفيذي أناند باجاج، حيث تتقاضى عمولة صغيرة لقاء سحب المال النقدي، وتحويل الأموال إلى الأقارب، وقبض التأمين، وحتى حجز تذاكر السفر.

ولكن أكثر العوامل التي أثرت على متاجر الكيرانا هي مجموعة من تطبيقات التجارة الإلكترونية المخصصة للتعامل بين الشركات، والتي أمنت للمتاجر بنية تحتية للتزويد بشكل يسمح لها بمجاراة سلاسل التجزئة الكبيرة. لطالما كانت متاجر الكيرانا تستجر المنتجات من شبكة متعددة الطبقات من الموزعين وتجار الجملة الذين يأخذ كل منهم حصته من الأرباح، كما يقول أحد مؤسسي تلك الشركات أودان (Udaan) سوجيت كومار. وبتجميع طلبات أكثر من 3.5 مليون كيرانا، تستطيع الشركة توفير صفقات جيدة مع المنتجين، ما يسمح بتجاوز الوسطاء وتخفيض الأسعار. وقد قالت الأغلبية العظمى من أصحاب متاجر كيرانا ممن تحدثت معهم إم آي تي تكنولوجي ريفيو إن أودان وغيرها من التطبيقات للتعامل بين الشركات، مثل جامبو تيل (Jumbotail) وجيومارت (Jiomart)، قد أدت إلى تعزيز أرباحهم.

يد المساعدة
دينيش ماتاجي، والذي يمتلك متجر كيرانا في تشارماجبيت، يستخدم التطبيقات التي تساعده على إدارة متجره. وقد تم تطوير بعض تكنولوجيات الكيرانا التي تتيح لأصحاب المتاجر باستقبال الطلبات عبر الإنترنت وتتبع الائتمان الذي يقدمونه للعملاء. مصدر الصورة: أبارنا نوري

ولكن الجهود الرامية إلى السيطرة على سلسلة التوريد التي تغذي متاجر الكيرانا يجب أن تثير بعض المخاوف، كما تقول سوري من (IIHS). فالطبيعة المجزأة وغير الرسمية لأنظمة التوزيع التقليدية تؤمن درجة عالية من المقاومة والمرونة، كما تقول، وتمنح العمال العديد من الخيارات للتنقل بين الوظائف بسرعة مع تغير الظروف. وبالتالي، فإن تحويل هذه الشبكات المتشابكة إلى شكل مركزي محصور ببضع منصات تكنولوجية دون إشراف حكومي يذكر، يمكن أن يمنح بعض الشركات درجة زائدة من السيطرة على الحياة الاقتصادية للملايين. وتقول: “ستصبح هذه الشركات المسيطر الوحيد على حركة العرض والطلب والقوى في السوق”. 

اقرأ أيضاً: سؤال مُلِحّ: هل ينبغي على البنوك المركزية أن تُصدر عملاتها الرقمية؟

ولكن يبدو أن متاجر الكيرانا تحظى ببعض الدعم في معركتها للبقاء. ويعتقد كومار من سناب بيز أن المجموعة الكبيرة من التكنولوجيات والخدمات التي أصبحت متاحة لهذه الشركات فائقة الصغر يمكن أن تحدث تغييراً كبيراً فيها. وسيكون كيرانا المستقبل بمثابة “مكتب خدمات للمنزل”، كما يقول، حيث سيؤمن جميع الاحتياجات التي يمكن أن يطلبها الزبون العادي. ويأمل بأن هذا سيساعد هذه المتاجر على الازدهار، وليس فقط لمصلحتها.

يقول كومار: “تمثل شبكة متاجر كيرانا الحالية البنية التحتية لإيصال المواد الأساسية إلى جموع الناس في هذه البلاد. وفي الوقت الحالي، ليس لدينا خيار عملي آخر”.