باحثون يرصدون لأول مرة جزيئاً بيولوجياً طبيعياً يتصرف كالأمواج الكمومية

2 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تعتبر ثنوية الموجة-الجسيم من أهم ألغاز ميكانيك الكم التي تبدو لنا خارج حدود المنطق، وتُعرف بأنها الظاهرة التي تعبر عن الأجسام التي تسلك سلوك جسيمات وأمواج في نفس الوقت.

وقد أثبتت العديد من التجارب أن جسيماً منفرداً -مثل إلكترون أو فوتون- يمكن أن يتداخل مع نفسه، تماماً مثل الموجة. وتعتبر تجربة الشقين المتجاورين -التي يمر فيها جسيم واحد من الشقين الاثنين في نفس الوقت- أحدَ أشهر الأمثلة على هذا.

وبما أن جميع الأجسام تحمل أساساً خصائص كمومية بطبيعتها، فإنها تحمل أطوالاً موجية مرافقة لها أيضاً. ولهذا، ومن حيث المبدأ، ينبغي للأجسام التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة أن تُظهر هذا النوع من الثنوية أيضاً، وذلك في إطار تجربة حساسة بما يكفي.

لم يتمكن الفيزيائيون حتى الآن من إيجاد طريقة لقياس السلوك الموجي للأجسام الكبيرة، ولكن طموحاتهم في هذا المجال تزداد باستمرار؛ ففي العام 1999، تمكنوا من قياس الثنوية الموجية الجسيمية في جزيئات الفوليرين، وقامت مجموعات أخرى بتكرار التجربة مع جزيئات أضخم.

وهذا ما يثير التساؤل التالي: أي حجم يمكن أن تصل إليه هذه التجارب؟ هل يمكن للباحثين، على سبيل المثال، قياس الخصائص الكمومية لجزيئات الحياة نفسها؟

حصلنا على إجابة عن هذا السؤال مؤخراً بفضل عمل أرمين شاييجي في جامعة فيينا ومجموعة من زملائه، الذين تمكنوا للمرة الأولى من قياس التداخل الكمومي في جزيئات الجراميسيدين، وهو مضاد حيوي طبيعي مؤلف من 15 حمضاً أمينياً على الأكثر. ويمهد هذا العمل الطريقَ أمام دراسة الخصائص الكمومية للجزيئات البيولوجية، ويفتح المجال أمام التجارب التي تعتمد على الطبيعة الكمومية للأنزيمات والدنا، وربما حتى الأشكال الحياتية البسيطة مثل الفيروسات، يوماً ما.

وقد أجرى شاييجي وزملاؤه تجربة بسيطة من حيث المبدأ. وتقوم مقاربتهم على تشكيل حزمة من جزيئات الجراميسيدين وقياس أنماط التداخل عندما تتداخل هذه الحزمة مع نفسها، وتمثل أنماط التداخل دليلاً واضحاً على الطبيعة الموجية للجزيئات.

غير أن القول أسهل من الفعل. فقد كانت أول مشكلة هي كيفية تشكيل حزمة من جزيئات بيولوجية منفردة، لأنها حساسة للغاية ويمكن أن تتفكك بسهولة.

وقد تمكن شاييجي وزملاؤه من تحقيق هذا بتغطية حافة دولاب دوار بطبقة رقيقة من الجراميسيدين، ومن ثم إطلاق سلسلة من النبضات الليزرية السريعة على الدولاب لقذف جزيئات الجراميسيدين عن السطح. ويجب أن تكون هذه النبضات قصيرة بما يكفي -لا تتجاوز طولها بضعة فمتو ثانية- لضرب الجزيئات وإبعادها عن السطح دون إيذائها.

تُسحَب جزيئات الجراميسيدين الحرة بعد ذلك ضمن حزمة من ذرات الأرجون التي تندفع بسرعة 600 متر في الثانية. وداخل هذه الحزمة، يبلغ الطول الموجي للجراميسيدين 350 فمتو متر (الفمتو متر هو واحد من مليون مليار جزء من المتر).

أما الخطوة النهائية فهي قياس النمط الناتج عن تداخل الموجة مع نفسها، وقد تكون الخطوة الأصعب؛ حيث إن الطول الموجي للحزمة يساوي حوالي ألف ضعف من الطول الموجي للجزيئات نفسها (مع الأخذ بعين الاعتبار مدى قربها من بعضها)، ولهذا كان الفريق في حاجة إلى طريقة لقياس الأنماط على هذا المستوى.

وهنا يأتي دور قياس التداخل. فقد استخدم الفريق طريقة فائقة الحساسية تعرف باسم طريقة تالبوت- لاو لقياس التداخل، وذلك لتحديد حجم نمط التداخل.

وتوصل الفريق إلى نتائج مقنعة. يقول شاييجي وزملاؤه: “وصل تفكك الترابط الجزيئي إلى أكثر من 20 ضعفاً من الحجم الجزيئي”. ويستحيل حدوث هذا النوع من التفكك والانتشار في الجزيئات البيولوجية إذا كانت جزيئات الجراميسيدين جسيمية فقط، ولا يمكن أن يحدث هذا إلا في تداخل موجي.

وقد قام باحثون آخرون بقياس ثنوية الموجة – الجسيم في جزيئات أكبر حجماً، ولكنهم استخدموا أساليب يمكن أن تؤدي إلى تفتيت جزيئات الحياة الحساسة، أما الطريقة الجديدة فستسمح بدراسة أكثر تفصيلاً للخصائص الكمومية للجزيئات البيولوجية.

يقول الباحثون: “إن النجاح في إجراء تجربة بصرية كمومية باستخدام متعدد ببتيد كجزيء بيولوجي تجريبي سيمهد الطريق أمام القياسات الجزيئية الكمومية، وعلى وجه الخصوص، القياس الطيفي الضوئي لمجموعة كبيرة من الجزيئات ذات الأهمية البيولوجية”.

إنه بحث مثير للاهتمام، ويمكن أن يساعدنا على تحليل العمليات التي تتميز بدرجة هائلة من التعقيد في هيكلية الحياة نفسها.

المرجع: arxiv.org/abs/1910.14538:
التداخل المادي- الموجي لمتعدد ببتيد في الحالة الطبيعية.