الهند تصارع الألم بعدما فشلت في التصدي لجائحة كورونا

6 دقائق
الهند التصدي لجائحة كورونا
مصدر الصورة: نافين شارما/ صور سوبا/ زوما واير/ ألامي لايف نيوز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

كان ربيع عام 2021 في الهند مروعاً ومخيفاً: سيارات الإسعاف لا تتوقف عن العواء، والمحارق الجنائزية مشتعلة 24 ساعة في اليوم، وأكياس الجثث تتكدس على ما يبدو إلى مالا نهاية، والحزن يخيم على الأجواء.

قبل هذا بعام واحد، بدا الأمر كما لو أن الهند قد نجت من أسوأ موجات فيروس كورونا. فبينما كان العالم الغربي يكافح لمواجهة الجائحة، ظلت الهند سالمة نسبياً، حيث بلغ معدل الوفيات أعلى مستوياته عند حوالي 1300 حالة وفاة يومياً في أواخر سبتمبر 2020 قبل أن يتراجع بشكل حاد مرة أخرى. وفي وقت سابق من هذا العام، أعلن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، أن بلاده انتصرت في معركتها ضد الفيروس. وأثناء مشاركته عبر الإنترنت في منتدى دافوس الذي عقده المنتدى الاقتصادي العالمي في 28 يناير الماضي، تفاخر مودي بـ “نهج المشاركة الشعبية الاستباقي الذي طبقته الهند، وبنيتها التحتية الصحية المصممة لمواجهة كوفيد-19، ومواردها المدربة لمكافحة الفيروس”.

وبعد ذلك، ومع تكثيف عمليات تلقي اللقاح واستمرار انخفاض أعداد الإصابات، خففت الدولة من جهودها لدرجة السماح بما اتضح لاحقاً أنها كانت “أحداث نقل فائق للعدوى” وقعت في أواخر مارس وأوائل أبريل، وأبرزها كومبه ميلا (رحلة حج هندوسية كبيرة إلى أنهار الهند الأربعة المقدسة) والتجمعات الانتخابية العملاقة في ولايات البنغال الغربية وكيرالا وآسام وتاميل نادو. وقد جذبت هذه الأحداث المزدحمة الآلاف الأشخاص الذين سافروا دون ارتداء أقنعة الوجه. وفي غضون أسابيع انهارت المنظومة الصحية. وأصبح شهر مايو الجاري أكثر الشهور دموية حتى الآن في معركة الهند مع فيروس كورونا، ما وضع البلاد في المرتبة الثالثة مباشرة خلف البرازيل والولايات المتحدة من حيث عدد الوفيات بسبب الجائحة. ووفقاً للمصادر الرسمية، فقد توفي أكثر من 311 ألف هندي نتيجة كوفيد حتى الآن، ولكن يُعتقد أن العدد الحقيقي للوفيات أعلى من ذلك بكثير.

وكما هو الحال في المناطق الأخرى، يكافح الناس في الهند للتأقلم مع هذه الوفيات في فترة تشهد تغيراً كبيراً في الأساليب التقليدية للحداد. وتقول ناتاشا ميكلز، أستاذة الدراسات الدينية في جامعة ولاية تكساس، التي تدرس طقوس الموت الهندوسية والبوذية، إنه كان لا بد من تجاهل التقاليد التي تعود إلى آلاف السنين. وتضيف “في الديانتين الهندوسية والجاينية، جرت العادة على أن يكون الابن الأكبر هو المسؤول عن إشعال المحرقة الجنائزية”. لكن معدلات العدوى والوفاة الناجمة عن جائحة كوفيد تعني أن الابن الأكبر كثيراً ما لا يكون موجوداً أو -الأسوأ من ذلك- ميت، وهو ما يعني أن الأسر تضطر لإيجاد طريقة لحرق أو دفن جثث أفرادها فيما هم مشغولون بالفعل في مهمة إخطار أقاربهم بشأن الوفاة. 

وتقول ميكلز إن “طقوس الموت تُعد من أكثر الجوانب الثقافية تحفظاً. والكثير من هذه الطقوس راسخ لدرجة أنها تحتاج إلى كارثة ثقافية لتغييرها. ونحن نشهد هذا الأمر بالفعل مع تفشي الجائحة. نشهد تحولاً في الطريقة التي نحزن بها”.

تمثل المساحات الإلكترونية منتديات بالغة الأهمية للتعبير عن الحزن والتنفيس عن الغضب بشأن طريقة تعامل الحكومة الهندية مع الأزمة. وتتشارك الأسر التي خسرت بعض أفرادها آلامها في مجموعات واتساب. أما المتطوعون في منظمات المعونة المتبادلة -التي تقدم المساعدة عن طريق الاستعانة بمصادر خارجية- فلا يكادون يتخطون حزنهم على أولئك الذين لقوا حتفهم، حتى يسارعوا من جديد لتقديم المساعدة للشخص التالي. كما تحول موقع تويتر إلى سيل متواصل من أخبار النعي، وانتشرت مناشدة وجهتها امرأة مكلومة إلى مودي للسماح بعمليات القتل الرحيم كالنار في الهشيم.

وبالرغم من انتشار الهواتف الذكية على نطاق واسع في الهند على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن الإلمام بالتكنولوجيا الرقمية والقدرة على التواصل عبر الإنترنت لا يزالان مرتبطان بالثروة، أي أن شريحة معينة فقط من السكان هي التي تتمتع بإمكانية التعبير عن حزنها عبر الإنترنت.

يقول شاه علم خان، أخصائي أورام العظام والأستاذ في “معهد عموم الهند للعلوم الطبية” بالعاصمة دلهي: “لم أر قط كل هذا القدر من الحزن بسبب الجائحة.قبل ذلك كنا نرى أولئك الذين ماتوا بكوفيد-19 مجرد أرقام، لكن الآن هناك أسماء. كل واحد منا يعرف شخصاً اختطفه الموت بسبب الجائحة. ولم أعد أعرف أحداً لا يعرف شخصاً توفى”. 

في المستشفى الذي يعمل به، يرى خان زملائه الأطباء وقد غمرهم الحزن بشدة لدرجة الانهيار. وفي الآونة الأخيرة، انتحر أحد زملائه في عيادته بعدما قام بثماني محاولات إنعاش غير ناجحة لمرضى. وهي حالة وفاة يتحدث عنها خان بهدوء معترفاً بأنه لم يستطع استيعاب هذا الأمر حتى الآن. 

ويقول: “عندما يموت الناس في مجتمعنا شديد التدين، يصبح الحزن جزءاً من التقاليد أكثر من كونه أي شيء آخر. أنا ملحد، ولكن في هذا البلد يكون الموت والحزن أسهل إذا كنت شخصاً متديناً”. 

كانت سيما هاري واحدة من عدد لا يحصى من الأشخاص الذين يستخدمون ميزة نشر القصص على منصة إنستقرام، لمشاركة موارد مثل مستندات جوجل التي تتضمن معلومات عن أماكن توافر خزانات الأكسجين، موجهة تركيزها بشكل خاص على مدينة مومباي مسقط رأسها. ولكن بعد إصابة عدد من أفراد عائلتها بكوفيد-19، دخلت في حالة من الحزن وانعزلت، باستثناء التواصل من خلال صفحتها على إنستقرام. 

وقالت هاري في رسالة عبر البريد الإلكتروني: “أمضيت معظم الأيام في قلق أحاول مشاركة الموارد مع الناس، وقضيت الليالي أطمأن عليهم من خلال تطبيق واتساب. ليس فقط عائلتي وإنما أصدقاء آخرين من جميع أنحاء الهند، أطرح عليهم السؤال المخيف عما إذا كان الجميع على ما يرام، وعما إذا كانوا بحاجة إلى أي مساعدة”.

وأضافت أنها لم تواتيها القدرة على التعبير عن حزنها كما ينبغي، ولا ترى نفسها قادرة على ذلك الآن: “ثمة الكثير من الحزن الجماعي والشخصي الذي يتعين علينا التعامل معه، لكن الأمر يبدو كما لو أننا لا نملك حتى الحق في الحزن، لأن الخسارة تستمر بلا هوادة وهناك الكثير من الأمور التي تتطلب منا الاهتمام والعمل”.

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Seema Hari (@seemahari)

بدوره، ساعد نيخيل تانيجا مؤسس منظمة يوفا (Yuvaa) الإعلامية الشبابية، الناس على التواصل أثناء المأساة الجارية، من خلال استضافة جلسات مع خبيرة الصحة العقلية نيها كيربال عبر خدمة تويتر سبيسز (Twitter Spaces).

ويقول تانيجا إن استضافة هذه الجلسات مثَّلت أحد السبل الهامة لمساعدة الشباب الذين شاهد منشوراتهم على تويتر وإنستقرام حول الحزن الذي كانوا يتعاملون معه. ويضيف: “لا يبدو أن هناك أي اعتراف بالحزن في بلدنا”، مشيراً إلى عدم تقديم مودي اعتذارات. ويوضح: “بينما نفقد عائلاتنا وأصدقائنا وأحبائنا، يتم اختزال حياة الناس في إحصاءات وأرقام”. 

من الصعب أيضاً على الشباب الوصول إلى المساعدة في ظل ثقافة تجد صعوبة في التعامل مع الصحة العقلية. ويشير تانيجا إلى أن كلمة “dukh” في اللغة الهندية تعني كلاً من الحزن والاكتئاب، مضيفاً: “هناك فرق بين الكلمتين، إلا أن لغتنا لا تعكس هذا الفرق”. 

وتقول ميكلز إن العام الماضي شهد تغيرات في الطقوس الجنائزية في جميع أنحاء العالم. وتوضح: “بات هذا الأمر عالمياً. وأصبحت العملية تتم على الإنترنت”. وغالباً ما يكون الأمر بسيطاً لا يتعدى حمل الهاتف في موقع حرق الجثث، بحيث يمكن لأفراد الأسرة القريبين والبعيدين على حد سواء أن يكونوا جزءاً من العملية عبر منصة زوم. 

بيد أن القيام بأنشطة مثل حضور جنازة عبر زوم أو استخدام إنستقرام لجمع خزانات الأكسجين المتاحة أو حتى الدردشة الجماعية عبر واتساب، تتطلب كلها مستوى من الوصول الرقمي والإلمام بالتكنولوجيا الرقمية مرتبط بالثروة في الهند. 

ويقول تانيجا: “لا يستطيع الكثير جداً من الناس شراء أجهزة الحاسوب المحمولة. ومع أن الكثيرين يمكنهم شراء الهواتف الذكية، إلا أنهم لا يقدرون على الوصول إلى الإنترنت”. لذا، يقر بأن الجلسات التي ينظمها على تويتر سبيسز ليست متاحة سوى لأولئك الذين لديهم إلمام بالتكنولوجيا الرقمية ويمكنهم تحمل تكلفة الاتصال بالإنترنت. وبما أن الخيارات المتاحة للحزن بطريقة آمنة يجب أن تكون متاحة على نطاق أوسع، فإنه يقول إن الحل يكمن خارج الإنترنت مثلما يكمن عبر الإنترنت”.قد تمثل الخطوط الساخنة أحد الحلول الممكنة، حيث تقول ليكشمي بريماناند كبيرة الأطباء النفسيين في منظمة الصحة العقلية (Sukh-Dukh)، إنها تتعامل مع العديد من الأشخاص الذين يعانون من الحزن والعزلة والاكتئاب، وفي كثير من الأحيان لا يكون لديهم اتصال بالإنترنت.

وتلاحظ بريماناند -الموجودة حالياً في إحدى بؤر كوفيد الساخنة في ولاية كيرالا- اختلافاً في نوعية الحزن الذي يعاني منه الناس. وتقول: “إذا كانت الموجة الأولى قد تسببت في خسائر اقتصادية وضياع للفرص، فإن فقدان الأصدقاء وأفراد العائلة هو الأثر المخيف والصارخ للموجة الثانية”. 

لقد اكتشفت أن الأشخاص الذين يتصلون بخط المساعدة على نحو متزايد هم الأصغر سناً والأقل قدرة على الوصول إلى الإنترنت، ومع ذلك فإنهم في أمس الحاجة إلى الدعم. وتتوقع بريماناند أن تبدأ موارد مماثلة في الظهور عندما تضرب الجائحة المزيد من المناطق الريفية التي تفتقر إلى البنية التحتية، مضيفة: “حيثما تكون هناك حاجة، سيظهر بديل”. وفي هذه الحالة، هذا البديل يعني العودة إلى التقنية الأساسية للهاتف.

وتقول ميكلز إن الحزن على ما يحدث في الهند ليس مقيداً بحدود البلاد، إذ سيكافح المغتربون الهنود لتقبل ما يحدث في وطنهم في الوقت الذي تستمر فيه عمليات إعادة الفتح في الدول التي يعيشون بها. وتضيف: “تُعلمنا جائحة كوفيد حقيقة الترابط بين الدول. ما يحدث في الهند سيؤثر علينا في أمريكا في نهاية المطاف، والعكس صحيح. وعلينا أن نفهم أننا مترابطون اجتماعياً مع بعضنا البعض، وأن الحزن الهندي هو حزننا أيضاً”.