هل يمكن الوثوق في علم الأنساب الجيني لتحديد الجناة؟

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

شهدنا في عام 2018 ظهور أسلوب جديد في التحقيقات الجنائية قائم على علم الأنساب الجيني، حيث يتم تقصي الحقائق من خلال إيجاد أقارب لمرتكب الجريمة بمطابقة الحمض النووي في موقع الجريمة مع تلك الموجودة في قواعد بيانات النسب الجيني، وحدث ذلك عندما تمكن المحققون من التعرف على القاتل المعروف باسم “قاتل الولاية الذهبي” من خلال قريب بعيد له. فهل يمكن الوثوق في علم الأنساب الجيني من أجل إلقاء القبض على الجناة؟

بعد شهر من إلقاء القبض على ذلك القاتل المتسلسل والمعتدي من ولاية كاليفورنيا، ساعد علم الأنساب الجيني السلطات مرة أخرى في القبض على قاتل أقل شهرة في ولاية واشنطن، وانتهت المحاكمة، التي تعد أول محاكمة جنائية على الإطلاق تُشرك علم الأنساب الجيني، في أواخر يونيو/ حزيران الماضي بإدانة وليام تالبوت الثاني، حيث وجدت هيئة المحلفين أنه مذنب في تهمتين تتعلقان بقتل تانيا فان كويلنبورج وجاي كوك (زوجان شابان كنديان) عام 1987.

أوضح المسؤولون عن إنفاذ القانون في المحكمة أنه بعد مرور عقود من إحراز تقدم ضئيل في تلك القضية، استطاعوا تحقيق قفزة كبيرة في عام 2017 بمساعدة شركة “بارابون نانو لابز” (Parabon NanoLabs) المتخصصة في علم الأنساب الجيني والرائدة في هذا المجال. تحقق علماء الأنساب من الحمض النووي الذي جُمع من ملابس الضحية، من خلال قاعدة بيانات الأنساب على موقع “جي إي دي ماتش” (GEDmatch) الذي يستخدمه الناس لتتبع أشجار عائلاتهم. وقد أسفر البحث في البداية عن إيجاد قريب بعيد لتالبوت، ثم أشارت البحوث التكميلية في الأرشيف إلى احتمال أن تالبوت هو المشتبه به، وبالتالي وفرت تلك المعلومات تقدماً بالغ الأهمية للمحققين.

الاستعانة بعلم الأنساب الجيني في التحقيقات الجنائية

كان الاستعانة بعلم الأنساب واختبار الحمض النووي في التحقيق الجنائي هو محور التغطية حول هذه القضية، ولا شك أنهم كانوا محقين في ذلك. فمنذ أبريل/نيسان، أسفرت الوسائل المتبعة في مجال علم الأنساب الجيني في شركة “بارابون” إلى الكشف عن هوية 49 مشتبهاً به، وتجديد حوالي 1,000 تحقيق، و17 عملية اعتقال على الأقل. مع الإقبال المتزايد على إجراء التحقيقات بالاستعانة بالمعلومات الجينية، فإن الدور الذي يلعبه هذا النهج لأول مرة في المساعدة على إدانة المشتبه به فعلياً يعد علامة فارقة في المجال الآخذ في النمو.

ومع ذلك، لم يقتصر دور شركة “بارابون” على مساعدة المحققين في تحديد مواقع أفراد أسرة المشتبه به فحسب، فوفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز“، قدمت الشركة في البداية صورة رقمية لوجه المشتبه به باستعمال اختبار الحمض النووي المأخوذ من مكان الجريمة. ولم تجد السلطات ذلك مفيداً في نهاية الأمر، لكن حقيقة أنها حاولت هو أمر جدير بالذكر.

مع رواج علم الأنساب الجيني، يبدو أن تصوير الوجه باستخدام اختبار الحمض النووي سوف يُسلط عليه مزيداً من الأضواء. والآن بعد أن فرضت الشركات التي لديها قواعد بيانات للحمض النووي مثل “موقع جي إي دي ماتش” قيوداً على استخدام تلك البيانات، سوف يصبح إجراء عمليات البحث استناداً إلى علم الأنساب الجيني أمراً أصعب، ومن المحتمل أن يصبح تحليل النمط الظاهري للحمض النووي (أي تحليل ما تبدو عليه ملامح الشخص ومواصفاته الشكلية من حمضه النووي) أكثر بروزاً في التحقيقات. كتبت بولا أرمنتروت، نائبة رئيس شركة “بارابون”، في رسالة إلكترونية: “سنعرف ذلك مع الوقت، فإذا جرى حل عدد أقل من القضايا عن طريق علم الأنساب الجيني، فسوف يلجأ المحققون إلى الوسائل الأخرى المتاحة لهم”.

قدمت شركة “بارابون” رسومات قائمة على الحمض النووي للمشتبه بهم منذ فترة ليست قصيرة، ذلك إلى جانب ما يعرف بخدمات علم الأنساب الجيني، حيث كان أول منتج مقدم من الشركة لغرض إنفاذ القانون هو خدمة تصوير الوجه. ثم بدأت الشركة في الاستعانة بعلم الأنساب الجيني لإجراء تحقيقات جنائية في وقت لاحق عندما اعتقلت السلطات “قاتل الولاية الذهبي” بالاستعانة بهذه الطريقة. شهدت خدمة إعادة تصوير ملامح الوجه، التي يقول الأكاديميون إنها ليست سليمة من الناحية العلمية، رواجاً أكبر بسبب التحقيقات القائمة على علم الأنساب. يقول ستيفن أرمنتروت، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “بارابون”: كانت شعبية (تحليل النمط الظاهري للحمض النووي للوجه) في تزايد قبل ظهور علم الأنساب الجيني، ولا شك أنها تتزايد أكثر بسبب علم الأنساب الجيني. وقد استعانت أقسام الشرطة بكلا الوسيلتين بشكل متزايد منذ إلقاء القبض على القاتل سالف الذكر.

تبيع الشركة الآن خدمة تحليل النمط الظاهري للوجه والخدمات القائمة على علم الأنساب الجيني جنباً إلى جنب على موقعها عبر الإنترنت. وتوفر خدمة تحليل النمط الظاهري الأولي للشعر ولون العينين مع تقييمها القائم على علم الأنساب مقابل 1,500 دولار. وتكلف الحزمة المتقدمة أكثر، والتي تشمل على تحليل هيئة الوجه بالكامل، 2,100 دولار إضافية. ملاحظة: أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” أن الأمر ينتهي بأقسام الشرطة بدفع مبلغ ما بين 4,000 إلى 5,000 دولار لكل قضية.

الشركات المختصة بعلم الأنساب الجيني واختبار الحمض النووي

إلى جانب شركة “بارابون”، هناك شركات أخرى مختصة بعلم الأنساب واختبار الحمض النووي تقدم خدمات مماثلة لتحليل النمط الظاهري، مثل شركة “أيدينتيتاس” (Identitas) وشركة “إيلومينا(Illumina). تقول شركة “بارابون” إنها ساعدت السلطات في الولايات المتحدة والسويد وكندا في أكثر من 350 قضية عبر استخدام تحليل النمط الظاهري للحمض النووي، وتضمنت حوالي 200 منها على تصوير هيئة الوجه بالكامل.

لكن لا تزال معرفة المجتمع العلمي ليست كبيرة فيما يخص كيفية تكوين الجينات لملامح وجه الشخص.

يقول يانيف إيرليش، أستاذ في مجال علوم الكمبيوتر بجامعة كولومبيا والرئيس التنفيذي للعلوم في شركة “ماي هيريتيدج” (MyHeritage) لاختبار الحمض النووي: جميع النجاحات الحديثة كانت بفضل علم الأنساب الجيني، وحاولت شركة “بارابون” تقديم خدمة إعادة تصوير ملامح الوجه كما لو أنها تنجح أيضاً. ويشير إلى أن الوسيلتين تستخدمان تقنية مماثلة لتحديد الواسمات الجينية، لذلك كان من المناسب إلى حد ما بالنسبة إلى الشركة ضم كلا الوسيلتين في عروضها.

وفقاً لكينيث كيد، وهو أستاذ فخري في مجال علم الوراثة في كلية الطب بـ “جامعة ييل“، فقد تعلم العلماء خلال السنوات القليلة الماضية المزيد حول ماهية الجينات الأكثر احتمالاً لتكوين ملامح معينة للوجه، لكنهم لم يتوصلوا بعد إلى فهم كامل للآلية. ويقول: ما تم إنجازه حتى الآن يعتمد على إيجاد الارتباطات، بمعنى أن الأشخاص أصحاب الجبهة الطويلة على سبيل المثال لديهم هذه المجموعة من المتغيرات الجينية بصورة أكثر تواتراً، لكن لم نتوصل إلى الفهم اللازم لعلم الأحياء التطوري الكامن خلفه. هذه نقطة مهمة لأنّ الجين نفسه قد يكوّن ملامح مختلفة لدى أشخاص مختلفين. حتى التوائم التي تتقاسم الحمض النووي نفسه ليست متطابقة تماماً، فقد يكون أحد التوأمين أقصر قليلاً أو أنفه أوسع قليلاً. بالإضافة إلى ذلك، تتغير ملامح الوجه للشخص بمرور الزمن، لذا يجب على المعنيين معرفة عمر المشتبه به الذي يحاولون إعادة تصوير ملامحه.

تحليل النمط الظاهري للوجه موثوق به إلى حد ما عندما يتعلق الأمر بتحديد لون شعر الشخص وعينيه وبشرته، لكنه ليس مفيداً من ناحية تحديد شكل الوجه. يقول إيرليش إن صور الوجه التي تنتجها التكنولوجيا غالباً ما تشبه بعضها بعضاً بالنسبة إلى الأشخاص من العرق والنوع نفسه، ولهذا السبب قد ترى بعض أوجه التشابه بين الصورة الرقمية وتلك الحقيقية. ويقول: إذا أعطيتك صورة مركبة (للوجه)، فسأضعها في الزاوية الصحيحة، وأضع الشخص بجوارها بحيث يحدق نحو الزاوية نفسها. والنتيجة هي ظهور صورة مشابهة لذلك الشخص”. كما نصح “الاتحاد الأميركي للحريات المدنية” (ACLU) بعدم استخدام تحليل الأنماط الظاهرة للوجه “لأي غرض جاد” في التحقيقات الجنائية، محذراً من أن هذه التقنية تنتج “معلومات لا أساس لها من الصحة” ويمكن أن تلحق الأذى بالأبرياء، خاصة إذا كانت الشرطة غير مدركة تماماً لأوجه القصور التي تحملها تلك التقنية.

المخاوف الأخلاقية المتعلقة باستخدام علم الأنساب الجيني

على الرغم من أن الأسلوب القائم على علم الأنساب الجيني ليس مثالياً، إلا أنه يبقى أكثر موثوقية، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنه يركز على الحمض النووي نفسه. إذ تتضمن العملية تحديد أنماط الجين التي يتشاركها الأشخاص من أصول الأسلاف المتشابهة، والجينات نفسها لن تتغير مع تقدم العمر، كما أن الطريقة التي تتكون من خلالها أقل أهمية. في الواقع، نظراً لقوة علم الأنساب الجيني، فهنالك مخاوف أخلاقية في الوقت الحالي من اتباع هذه الوسيلة أكثر من تلك القائمة على إعادة تصوير ملامح الوجه. يقول جاي ستانلي، وهو كبير محللي السياسات في “الاتحاد الأميركي للحريات المدنية”: “إن ما يقلقنا بشأن تحليل النمط الظاهري للوجه هو أنه لا يستند في الحقيقة إلى معايير علمية سليمة”. أما فيما يخص الوسائل القائمة على علم الأنساب، فإن ذلك الأمر ليس هو الشاغل الرئيسي، بل يرجع قلقنا أكثر إلى سلسلة الإجراءات التي تتخذها الشرطة. في حين أن تحليل النمط الظاهري للوجه لا يتطلب سوى الحمض النووي للمشتبه به، فإن التحقيقات القائمة على علم الأنساب تستخدم الحمض النووي للمشتبه به إلى جانب الحمض النووي للأشخاص الأبرياء، الذين قد لا يعرفون أنه يمكن للمكلفين بإنفاذ القانون الوصول إلى ملفاتهم التي تحمل سماتهم الوراثية.

باختصار، يؤكد كل من إيرليش وكيد على احتمال أن تبالغ شركة “بارابون” جداً في تقدير جدوى تقنية تحليل النمط الظاهري للوجه، بينما منتجاتها القائمة إلى علم الأنساب الجيني مستندة أكثر إلى البحث العلمي. كما أشار كلاهما إلى أن الشركة لم تنشر معلومات كافية حول طرقها في تحليل النمط الظاهري للسماح بإجراء مراجعات مناسبة من قبل الزملاء في المجال.

بينما يزعم ستيفن أرمنتروت أن تقييم الفاعلية النسبية للتقنيتين يشبه المقارنة عديمة الجدوى بين “التفاح والبرتقال”، لأنهما يخدمان أغراضاً مختلفة في التحقيقات. إذ يهدف تحليل النمط الظاهري للوجه إلى مساعدة الشرطة على استبعاد الأشخاص وليس تحديد هوية الجاني، ولا تقدم الشركة أي ادعاءات بأن رسومات النمط الظاهري هي صور واقعية.

وفي معرض الحديث عن مدى الموثوقية في علم الأنساب الجيني في تحديد الجناة، وعن الشعور العام بالشك لدى البعض في المجتمع الأكاديمي تجاه تقنية إعادة تصوير ملامح الوجه في شركة “بارابون”، يقول ستيفن أرمنتروت: “نحن نحاول خدمة زبائننا، والطلب المتزايد على التقنية ونجاحها يتحدثان نيابة عنا”.