هل شركات التكنولوجية محايدة سياسياً؟

7 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

انخرطت شركة “آبل” في نشاط تجاري جديد في أوائل هذا الشهر، وهو تصنيع أغطية حرارية لأجهزة آبل طُبع عليها شعار “الرابطة الوطنية لكرة السلة الأميركية” (NBA) ولكنها واجهت مشكلة مع الحكومة الصينية بسبب عدم الحياد السياسي في الشركات التكنولوجية، وبسبب موقف المدير العام لـ “فريق هيوستن روكتس” المؤيد لمظاهرات هونغ كونغ أيضاُ. في المقابل، أزالت الشركة من “متجر آب ستور” الخاص بها تطبيقاً يسمى “آتش كيه ماب لايف” (HKmap.live) الذي كان يستخدمه المتظاهرون في هونغ كونغ لمعرفة مكان تمركز الشرطة وسط المظاهرات المؤيدة للديمقراطية ضد الحكومة الصينية التي اجتاحت المدينة منذ شهور. في الأيام القليلة الأولى التي توفر فيها “تطبيق آتش كيه ماب لايف”، أصبح هو تطبيق السفر الأكثر تحميلاً في هونغ كونغ وفقاً لصحيفةنيويورك تايمز” حتى تصاعدت شكاوى السلطات ووسائل الإعلام الرسمية الصينية.

قالت الشركة إنها رفضت الموافقة المبدئية على التطبيق لأنه “ينتهك الإرشادات والقوانين المحلية”، حيث إنه “يُستخدم بطريقة تسبب الضرر لأنه يستهدف أفراد الشرطة ويشجع على العنف والإيقاع بالأفراد والاعتداء على الممتلكات التي لا يوجد في مناطقها رجال شرطة”.

طريقة عمل “تطبيق آتش كيه ماب لايف”

إليك طريقة عمل “تطبيق آتش كيه ماب لايف” فعلياً، فقد جمع التطبيق الخاص بالخرائط البيانات المتاحة من مصادر وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، ولم يُظهر مواقع محددة لأفراد الشرطة. وهناك فاصل زمني قبل أن تظهر البيانات على التطبيق، هذا وفقاً لما ذكره المدون والناشط ماسييج سيجلوفسكي، الذي كان في هونغ كونغ منذ شهور. وأدان تشارلز موك، وهو أحد المشرعين في هونغ كونغ، قرار شركة “آبل” مشيراً إلى أن التطبيق كان يستخدم من قبل السكان الذين يريدون تجنب الغاز المسيل للدموع، وأضاف إن بعض السكان يشاركون المعلومات المتعلقة بنشاط الشرطة لتجنب المضايقة.

وقال موك في رسالة موجهة إلى الرئيس التنفيذي لشركة “آبل” تيم كوك، إن “فيسبوك” و”تويتر” وتطبيقات “آي أو إس” الأخرى المتاحة على “متجر آب ستور” في هونغ كونغ تسمح للمستخدمين بفعل الأمر نفسه، والمبرر الذي قدمته شركة “آبل” كان زائفاً وطُبق بصورة متفاوتة.

كانت ردود الفعل السلبية على قرار شركة “آبل” سريعة، وهو موقف نادراً ما تتعرض له علامة تجارية لا تواجه النقد عادة إلا عندما تكون أجهزتها الجديدة مملة، ولكن ما لم تكن شركة “آبل” قادرة على إثبات ادعاءاتها حول التطبيق الذي يُستخدم لتسهيل العنف، ولم يحدث هذا حتى الآن، يبدو أن هذا يمثل حالة من حالات الاستسلام للشركة أمام الحكومة الصينية التي تعتمد عليها اليوم اعتماداً كبيراً، خاصة بعد أيام من تعرض “الرابطة الوطنية لكرة السلة الأميركية” للاتهام بفعل الأمر نفسه. لدى شركة “آبل” أعمال بمليارات الدولارات في الصين، وهي تصنع هواتفها هناك حالها حال الشركات الأخرى، ولا ترغب في إغضاب قادة هذا البلد. لكن هذا الموقف صادر عن شركة ناضلت من أجل الحريات المدنية في أميركا، حيث اتخذت موقفاً لصالح خصوصية المستخدم، ذلك في مواجهة طلب “مكتب التحقيقات الفيدرالي” (FBI) بإلغاء قفل جهاز آيفون الخاص بأحد منفذي هجوم سان بيرناردينو، وهو ما يناقض إجراءاتها المتخذة في هونغ كونغ.

شركة “آبل” والقيم الديمقراطية للحكومة الصينية

هذه ليست المرة الأولى التي تخالف فيها شركة “آبل” القيم الديمقراطية لصالح الحكومة الصينية. ففي عام 2017، ساعدت الشركة على دعم الحكومة الصينية من خلال حذف أكثر من 60 تطبيقاً كانت تستخدم لتجاوز مرشحات محتوى الإنترنت في الصين. كما أزالت أيضاً تطبيق “صحيفة نيويورك تايمز” من الصين وتطبيق “موقع الكوارتز” الإخباري في أوائل هذا الشهر، وهو ما وصفه الرئيس التنفيذي لشركة “كوارتز” بـ “الرقابة الحكومية على الإنترنت”. في أوائل هذا الشهر، أزالت شركة “جوجل” أيضاً لعبة من “متجر جوجل بلاي” بناء على طلب شرطة هونغ كونغ، حيث سمحت للاعبين بأداء دور المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية. وأخبرت الشركة “صحيفة وول ستريت جورنال” إن اللعبة انتهكت سياساتها فيما يتعلق باستغلال “الصراعات أو المآسي الجدية والمستمرة عن طريق لعبة”.

قد يكون حذف التطبيق الذي يفضله المتظاهرون المؤيدون للديمقراطية هو تكلفة التعامل مع نظام استبدادي، لكنه يضع شركة “آبل” في موقف غير مريح، ليس فقط مع “الرابطة الوطنية لكرة السلة”، ولكن أيضاً مع شركات التكنولوجيا الأخرى في أميركا التي تسمح حالياً بوضع ابتكاراتها ضمن إطار مؤسف عند استخدامه من قبل عميل حكومي.

مثل جميع الوكالات الحكومية، تستخدم “وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك” جميع أنواع التقنيات لتتبع أعمالها، فهناك قواعد البيانات وأدوات البحث وتطبيقات الأجهزة المحمولة وخدمات الاستضافة ومواقع الويب والمزيد. لكن هذه الوكالة تعتبر بمثابة القوة المركزية وراء سياسات الهجرة لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي أسهمت في زيادة حالات ترحيل الأشخاص من الآباء والأمهات وغير المجرمين والأشخاص القادمين للمطالبة برؤية أقاربهم الذين يعبرون الحدود طالبين اللجوء، وساعدت أيضاً على فصل الآباء والأمهات عن أطفالهم، ووضع بعض من هؤلاء الأطفال في السجون. كل هذا يجري بلا شك بمساعدة النظم التكنولوجية التي تسمح بمراقبة الأشخاص وتتبعهم، ومقارنة البيانات وتحليلها.

مواقف الشركات التكنولوجية من السياسات العالمية

من بين الكثير من الناس الذين أخافهم هذا هم الرؤساء التنفيذيون للشركات التكنولوجية، فقد عارض جيف بيزوس الرئيس التنفيذي لشركة “أمازون”، الذي هاجر والده من كوبا إلى الولايات المتحدة، وبشكل صريح سياسات الهجرة التي تتبعها الإدارة، خاصة عندما دعمت الشركة الطعن القانوني لحظر سفر المسلمين، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن لدى “أمازون” العشرات من الموظفين الذين يأتون من البلدان المتأثرة بمثل تلك القوانين. كان الرئيس التنفيذي ل شركة “مايكروسوفت” ساتيا ناديلا واضحاً كل الوضوح في رسالة أرسلها إلى الموظفين في العام الماضي، والتي افتتحت بالتالي: “أشعر بالفزع بشأن السياسة البغيضة المتمثلة في فصل الأطفال المهاجرين عن عائلاتهم على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة”. وبالمثل، وصف الرئيس التنفيذي ل شركة “آبل” تيم كوك سياسة فصل العائلات عند الحدود بأنها “غير إنسانية” ودعى إلى وقفها.

التعبير بالكلمات ليس إلا شكلاً واحداً من أشكال التصرف، ويتمثل الوجه الآخر في محافظة شركتي “أمازون” و”مايكروسوف”، إلى جانب شركات أخرى مثل كونكروديلوبالانتير“، على عقود مربحة مع “وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك” تحت ظل إدارة ترامب، حيث توفر خدمات قاعدة البيانات والاستضافة والبنية التحتية التي تقوي سياسات الهجرة الحالية. على سبيل المثال، وقعت شركة “مايكروسوفت” عقداً بقيمة 19.4 مليون دولار مع “وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك” في يونيو/حزيران عام 2018 لمعالجة البيانات وتحليلات الذكاء الاصطناعي. وتستضيف خدمات شركة “أمازون” على شبكة الإنترنت قواعد بيانات ضخمة لوزارة الأمن الداخلي، التي تعد الوكالة جزءاً منها، والتي تُستخدم لتعقب المهاجرين.

كما جددت شركة “بالانتير” شركة تحليل البيانات، الممولة من قبل بيتر ثيل، أحد أبرز الداعمين للرئيس دونالد ترامب في “وادي السيليكون”، عقداً مع الوكالة المذكورة بقيمة تصل إلى 49 مليون دولار (على الرغم من أن الشركة لا تتظاهر بأنها جزء من أي مقاومة). وتدعم الخدمات السحابية من شركة “أمازون” أيضاً منتجات شركة “بالانتير” الخاصة ب وكالة “إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك”، التي صُممت للغرض المباشر المتمثل في مراقبة المهاجرين وإلقاء القبض عليهم.

العديد من هذه العقود أصبحت الآن معروفة على نطاق واسع بسبب العمال في الشركات الذين انتقدوا أصحاب عملهم علانية على أمل حثهم على التخلي عن العمل مع الوكالة. واستجابة لاحتجاجات الموظفين، أصدرت شركة “مايكروسوفت” بياناً تقول فيه إن الشركة لم تكن على دراية بكيفية استخدام منتجاتها وخدماتها لفصل الأطفال عن عائلاتهم، على الرغم من تفاخرها بدعم وكالة “إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك” وأن برمجياتها تسمح للوكالة “استخدام قدرات التعلم العميق لتسريع التعرف على الوجوه وتحديد هوية” المهاجرين، ذلك من خلال منشور على مدونتها قبل بضعة أشهر فقط. وأخبرت شركة “أمازون” الصحافة رداً على احتجاجات الموظفين بسبب العقود مع الوكالة التالي: “كما قلنا مرات عديدة، وما زلنا نؤمن بما قلناه بقوة، إن الشركات والمؤسسات الحكومية بحاجة إلى استخدام التقنيات الحالية والجديدة بطريقة مسؤولة وقانونية”.

في أوائل هذا الشهر، وقع الموظفون العاملون في “غيت هاب” (GitHub) (وهي خدمة استضافة تابعة لمايكروسوفت) الذين كانوا يجتمعون لعدة شهور مع المسؤولين التنفيذيين القائمين على منصة تطوير البرمجيات لإقناعهم بإلغاء عقدها مع وكالة “إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك”، رسالة توبّخ المنصة التابعة ل شركة “مايكروسوفت” على مواصلتها ترخيص إصدار من برمجياتها إلى الوكالة. وقال الرئيس التنفيذي نات فريدمان أنه مثلما ترخص “مايكروسوفت” برنامجها “مايكروسوفت وورد” لأي شخص دون مراقبة ما يفعله به، “نعتقد أنه سيكون من الخطأ بالنسبة إلى “غيت هاب” الطلب من مطوري البرامج إخبارنا بما يفعلونه بأدواتنا”. وعندما وعدت “غيت هاب” بالتبرع بمبلغ 500 ألف دولار للمؤسسات التي تدعم المهاجرين المستهدفين بموجب سياسات إدارة ترامب، ردّ الموظفون برسالة أخرى مفادها: “لا يوجد تبرع يمكن أن يعوض الضرر الذي تتسبب به وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك بمساعدتنا”.

تعدّ السياسات الدفاعية التي تتبعها جميع هذه الشركات، بدءاً من عقود وكالة “إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك” وصولاً إلى إزالة “متجر آب ستور” من آبل في الصين، ذات غايات متقاربة، والتي تتلخص في أنهم يؤدّون أعمالهم فحسب ويتبعون قوانين البلدان التي يعملون فيها.

الاستخدامات المحايدة للتطبيقات

بالنظر إلى كل هذا، لم أستطع إلا أن أفكر في عمل شركة “آي بي إم” مع ألمانيا النازية، ليس لأن ما تفعله شركتا “آبل” و”مايكروسوفت” يُقارن بتسهيل عمليات الإبادة الجماعية -بالطبع لا- لكن بسبب كيفية إبراز ما يفعلونه على أنه الاستخدامات الصحيحة للمنتجات المحايدة. منذ حوالي عام 1933 إلى عام 1945، قدمت شركة “آي بي إم” تقنية البطاقات المثقبة المخصصة بالإضافة إلى التدريب والخدمات التقنية والمعدات إلى الحكومة النازية، وعندما عبّر الأميركيون عن غضبهم من هذا العمل في عام 1940، أعاد رئيس الشركة توماس واتسون الأب ميدالية منحها له أدولف هتلر. لكن شركة “آي بي إم” استمرت في توسيع نطاق عملها مع النازيين من خلال فرعها في هولندا في السنوات التالية. بعد الحرب العالمية الثانية، تمكنت الشركة من تأمين أجهزتها وأرباحها الضخمة من ألمانيا، وعلمت كيف يمكنها إيصال الرسالة الصحيحة إلى الجمهور مع الإبقاء على عقودها المربحة، وهي عقود لم تنتهك القوانين في البلد الذي كانت تعمل فيه.

تصف شركات التكنولوجيا نفسها بأنها تنتج أدوات محايدة، إذ قالت شركة “مايكروسوفت” أن خدماتها المقدمة إلى وكالة “إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك” تستخدم لأشياء مثل البريد الإلكتروني. وتتبع شركة “آبل” إرشادات “متجر آب ستور” فحسب، كما تفعل مع أي تطبيق آخر. كما تقدم شركة “أمازون” خدمات استضافة مواقع الويب لوكالات الهجرة تماماً كما تفعل مع الفرق الرياضية، (قدمت “أمازون” حجة مماثلة في أوائل هذا الشهر حول عملها مع شركات الوقود الأحفوري).

قد يبدو كل هذا منطقياً لأولئك الذين يزعمون أن عدم تقديم خدمات الويب إلى إحدى الوكالات الحكومية يفتح الأبواب أمام أمازون أو مايكروسوفت لعدم توفير استضافة الويب للنشطاء في مجال إصلاح قوانين الهجرة في المقابل، وقد يكون منطقياً لأولئك الذين يشيرون، كما فعل الرئيس التنفيذي لـ “غيت هاب”، إلى أن خدماتهم تشبه السلع التي يجري شراؤها من رفوف المتاجر ولا يمكنهم التحكم في من يستخدمها.

نعم، جميع الأسواق تتطلب مستوى من الخصوصية من أجل تأدية عملها، ولا يمكنك معرفة الميل السياسي لكل شخص تشتري منه سلعة بسيطة، كما يمكن للموردين اتخاذ قرار بشأن ما إذا كانوا يريدون أو لا يريدون الكشف عن عملائهم، لكن عندما يعلمون أن العملاء يستخدمون منتجاتهم لغايات تخالف مبادئهم، ليس عليهم أي التزام بالمضي قدماً في هذا العمل. يستخدم الناشطون والنقاد التقنيون أحياناً كلمة “متواطئة” عند الحديث عن الشركات التي تبدو وكأنها تتخذ الاتجاه المعاكس عندما تسبب اختراعاتها ضرراً، لكن كلمة “متعاونة” قد تكون أكثر دقة.

إن توفير قاعدة بيانات وخدمات الويب – حتى لو كانت مجرد خدمة البريد الإلكتروني – لنظام هجرة مجحف يساعد على تعزيز ممارسة الإجحاف، ومراقبة تطبيق يحظى بشعبية لدى المتظاهرين لأن الحكومة الصينية لا ترغب في ذلك قد تضر أولئك المتظاهرين. يمكن لهذه الشركات أن تفعل ما تريده بالبرمجيات التي تبيعها، لكن عليها التوقف عن التظاهر على أنها محايدة سياسياً.