الأشجار تتمتع بالمعرفة أيضاً

4 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

افتتح مؤتمر “الأمم المتحدة للتغيّر المناخي” في مدريد في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وكان المؤتمر قد وصف أزمة المناخ بأنها “حرب ضد الطبيعة“. لكن الأشجار كانت دائماً في حالة حرب وتقاتل من أجل بقائها، وبينما قد تبدو النباتات بأنها ساكنة في البيئة، إلا أنه يمكنها استشعار البيئة المحيطة بها، واتخاذ القرارات، والاستجابة للتهديدات، إلى حد معين بسبب تمتع الأشجار بالمعرفة أيضاً.

تفاوت موعد تساقط أوراق الشجر

يحمل كل خريف مخاطر رهيبة على النباتات، وفي حين أن العديد من الأشجار تسقط أوراقها في كل عام، إلا أن قرار تحديد موعد ذلك بدقة هو أمر حساس، هذا ما يوضحه بيتر فولبن، وهو حارس غابة ألماني، في كتابه “الحياة الخفية للأشجار” (The Hidden Life of Trees). إذا تساقطت الأوراق في وقت مبكر جداً، فإن الأشجار تفقد فرصتها في تجهيز ما تتغذى عليه في فصل الربيع التالي. أما إذا حدث ذلك في وقت متأخر جداً، فيمكن لعاصفة ثلجية أو جليدية مبكرة أن تثقل أوراق الشجر، وتقطع الأغصان، وتتسبب في أضرار تميتها.

قد يبدو هذا القرار تلقائياً لمراقب بشري، لكن الواقع هو أن كل شجرة تتخذ قراراً مختلفاً، ما يدل على مدى خاصية الحدث. يصف فولبن أشجار السنديان التي يبلغ عمرها 300 عام، والتي تنمو جنباً إلى جنب، بالتالي: تسقط إحدى هذه الأشجار أوراقها في وقت مبكر عن غيرها، ويقول: “يبدو أن توقيت تساقط الأوراق هو مسألة ذات طابع فردي في الحقيقة، فالشجرة الموجودة على اليمين أكثر حرصاً من غيرها، أو ربما أكثر حساسية، إذا أردت أن أكون أكثر إيجابية”. ويضيف: أما تلك الشجرتان فإنهما “أكثر جرأة”، أي أنهما تراهنان على الطقس الجيد.

تقرر الأشجار وقت الاستجابة بناء على طول اليوم ودرجات الحرارة، وهو أمر يمكنها استشعاره بسهولة. إن ارتفاع درجات الحرارة يعني قدوم فصل الربيع، وانخفاضها يعني قدوم فصل الخريف. يقول فولبن: “وما يثبته هذا أيضاً هو أن الأشجار بالتأكيد لديها ذاكرة”.

“يختلف هذا تماماً عن الذكريات المفصلة والمشبعة بالعواطف التي نسترجعها يومياً”، وفقاً لما ذكره دانييل تشاموفيتز، عالم الأحياء في كتابه “ما الذي تعرفه النباتات” (What a Plant Knows). مع ذلك، تستخدم النباتات بعض الآليات نفسها التي نستخدمها لتذكر الأحداث، وعلم التخلّق (وهو العلم الذي يُعنى بدراسة التغيرات في تعبير الجينات عن نفسها) يعدّ من إحدى الطرق الرئيسة التي تُبقي تجاربنا السابقة معنا، مثل تحملنا للمناخ البارد، وهذا يحدث مع النباتات أيضاً. تؤثر التغييرات المتعلقة بالتخلّق على الطريقة التي تعبر الجينات عن نفسها من دون تغيير رمز الحمض النووي الأساسي. يقول تشاموفيتز: “يلتف الحمض النووي حول جزيئات بروتينية تسمى الهستونات، ويمكن للأحداث تغيير هستون معين، ما يؤثر بدوره على أيّ من الجينات التي تنقل الأوامر. بهذه الطريقة، “تتذكر” النباتات أموراً مثل سوء الأحوال الجوية وهجمات الحشرات. بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر تذكر النباتات على الضغط البيئي فحسب، بل يمكنها نقل هذه الذكريات أيضاً، لأن التغيرات المتعلقة بالتخلّق ممكنة وراثياً، أي أن بذورها تكون جاهزة للمشكلات التي واجهها أسلافها.

هذا يعني أنها تستطيع التعرف على الجفاف واستعادة طرق للتعامل معه، إذ يمكن للأشجار الاستعداد لإغلاق المسامات (الثغيرات) على أوراقها للحد من فقدان المياه أو العمل على الحد من عدد الثغيرات، وقد تكون جاهزة لإحضار المزيد من المياه من جذورها. وباستخدام ما يسمى بتكيف الخلايا، يمكن للأطراف المتنامية للفروع استخدام نمط ظاهري مختلف، أي تغيير شكلها الفعلي، من أجل التكيف مع ظروف النمو المتوقعة والجديدة، الأمر الذي يتيح للأشجار البقاء حية ضمن مجموعة متنوعة من البيئات. يمكن للأشجار أيضاً استخدام المعاملات الكهروكيميائية للتحرك، رغم اعتقادنا بأنها ساكنة وثابتة، على سبيل المثال، تغلق النبتة التي تسمى صائدة الذباب ذاتها عندما تلامس حشرة شعيرة معينة في فخها، حيث تعمل هذه الشعيرات مثل الإشارات الكهربائية في نظامنا العصبي.

“الذكاء الجماعي” لدى الأشجار

لكن بدلاً من النظام العصبي، وهو أي مصدر مركزي لصنع القرار، تمتلك النباتات ما يسميه ستيفانو مانكوسو، المتخصص في علم أعصاب النباتات، في كتاب “العبقرية الثورية للنباتات” (The Revolutionary Genius of Plants) بـ “الذكاء الجماعي”. يتفاعل كل جزء في النبات مع التغيرات في بيئته، بما في ذلك التغيرات في مكونات البيئة المجاورة لها من الكائنات الحية، مثل مستعمرة النحل. يقول مانكوسو: “على الرغم من أنها لا تملك شيئاً يشبه الدماغ المركزي، إلا أن النباتات تحمل سمات ذكاء لا لبس فيها؛ إنها قادرة على إدراك محيطها بحساسية أكبر من الحيوانات”.

يقول تشاموفيتز: “إن الذكاء مصطلح كبير بالنسبة إلى النباتات، لكنها تدرك تماماً العالم من حولها”. إذ يمكنها استشعار أنواع مختلفة من الضوء، وتقييم المواد الكيميائية في الهواء، بما في ذلك تلك المنبعثة من النباتات الأخرى، وتمييز أنواع مختلفة من اللمسات على أوراقها، وتحديد الثقل عليها. كما أن “النباتات تدرك ماضيها”، إنها لا تعرفنا باعتبارنا أفراداً، لكنها تعرف بيئتها، “والناس جزء من هذه البيئة”.

ما قد لا تدركه النباتات هو إلى أي حد يغير الإنسان من تلك البيئة، إذ يأتي الشتاء متأخراً، ويأتي الربيع مبكراً، أما العواصف فتأتي بقوة أكبر وتسبب أضراراً أكبر، ويكون الصيف أكثر سخونة، ويحدث الجفاف بتواتر أكبر ويكون أكثر قساوة.

يقول أندرو ماثيوز، أستاذ الأنثروبولوجيا البيئية في جامعة كاليفورنيا “سانتا كروز”، الذي يركز عمله على الغابات والاستدامة: “إن الأشجار تعرف كيف تتكيف، لكن إلى حد معين”. ويضيف أن آخر عصر جليدي في أوروبا قد انتهى منذ حوالي 12 ألف عام، وهذا ما يمثل 20 جيلاً فقط من الأشجار، إذاً “الأشجار البالغة هي خارج المسار على أي حال” فيما يتعلق بتغير المناخ، لكن هذه ليست مشكلتها الأكثر إلحاحاً.

يقول ماثيوز: “لا تعيش الأشجار في المناخ المناسب، إنما في الطقس المناسب”، ويمكنها ضبط نفسها عدة مرات خلال دورة حياتها للتكيف من خلال طرق لا تتمكن الحيوانات أن تجاريها فيها، مثل إسقاط الأوراق في وقت مبكر أو متأخر، وتغيير شكل أوراقها وملمسها، وتغيير تركيبة جذوعها، أو مدّ جذورها بشكل أعمق أو أقل عمقاً. يمكن للأشجار أن “تهاجر” إلى مناطق مناخية أفضل عن طريق إرسال البذور التي تحملها الرياح أو الحيوانات لتنتشر في مناطق جديدة. لكن هل يمكنها التحرك بسرعة كافية؟ حتى لو تمكنت من ذلك، فإن الموَاطن الجديدة ستكون محدودة. يرى ماثيوز أن الأشجار في المناطق الجبلية يمكن أن تهاجر إلى مناطق بعيدة عن خط الاستواء مع ارتفاع درجات الحرارة، ولكن حتى لو تحركت بسرعة كافية، فقد يجري دفعها إلى الأعلى “إلى حد لا يكون لديها مكان آخر تذهب إليه ثم تنقرض” في ذلك المكان.

حتى إذا نجحت النباتات في التكيف مع تغير المناخ من خلال تغيير موقعها أو مواعيدها، إلا أنها ليست وحدها في محيطها الحيوي. إن الزهور التي قد تتفتح في وقت مبكر أو متأخر تكون بحاجة إلى عوامل تلقيح، فهل تتحرك الكائنات مثل النحل والطيور والفراشات والدبابير والعناكب والذباب جنباً إلى جنب مع الأشجار، وإذا فعلت ذلك، فهل ستكون في الموعد نفسه؟ لا يعرف العلماء إجابة عن هذا السؤال.

يمكننا مناقشة تعريف “الذكاء”، لكننا نعرف أن الأشجار يمكنها تحديد المشكلات وحلها بطرق لا يمكننا مجاراتها فيها. إنها تتذكر أن الربيع قادم، وعندها ستكون على استعداد لاستشعار الطقس واتخاذ قراراتها استجابة لذلك، لكن ما لا تعرفه هو أن قراراتها أصبحت أكثر أهمية مع مرور كل موسم وسنة. كما أن قراراتنا نحن البشر لا تقل أهمية، لكننا نعلم أنه يمكننا التنبؤ بالمستقبل، أما الذكاء الذي تتمتع به الأشجار، فلا يمكنّها من فعل ذلك.