هل فات أوان إنقاذ الإنترنت؟

7 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ألحقت إدارة ترامب أضراراً جسيمة بشبكة الإنترنت الحرة والمفتوحة في جميع أنحاء العالم. إليك المطلوب لإنقاذ شبكة الإنترنت في الولايات المتحدة الأميركية مرة أخرى.

سمعنا جميعاً عن حجب الإنترنت في بيلاروسيا في أوائل شهر أغسطس/آب، وهذه المناسبة تذكرنا بأهمية شبكة الإنترنت المفتوحة في قضايا حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين. بدأت الحكومة البيلاروسية بالتشويش على خدمة الإنترنت في وقت مبكر من يوم الأحد 9 أغسطس/آب، وقبل وقت قصير من بدء التصويت في الانتخابات الرئاسية التي يعتقد مرشحو المعارضة وناشطوها أنها زُورت لصالح ألكسندر لوكاشينكو، الرجل الذي لطالما تمتع بقوة ونفوذ كبيرين. وبحلول نهاية اليوم، عندما بدأت حشود المتظاهرين بالتجمع في الشوارع، أصبح التشويش على الإنترنت أشد، ما منع التغطية الإعلامية الفورية للحملة الدموية التي شنت عليهم بعد ذلك. قالت مجموعة المراقبة المستقلة “نت بلوكس” (NetBlocks) إن خدمة الإنترنت لم تعد إلى العمل حتى صباح الأحد، 12 أغسطس/آب، وقبل عودتها، تم اعتقال أكثر من 6,000 شخص، وترحيل عدد من قادة المعارضة إلى خارج البلاد، ومنهم مرشحة المعارضة الرئيسية، سفيتلاناتيخانوفسكايا. وفي أثناء فترة انقطاع اتصال الإنترنت، كانت هناك قناة إخبارية تسمى “نيكستا” (Nexta)، وهي واحدة من بضع قنوات، قليلة تصل بين المتظاهرين والعالم الخارجي، وكانت هذه القناة تعمل من بولندا عن طريق تطبيق المراسلة “تليغرام” (Telegram).

أهمية الاتصال الحر بشبكة الإنترنت

ما حدث في بيلاروسيا هو تذكير بأهمية الاتصال الحر المفتوح بشبكة الإنترنت العالمية في تحقيق الديمقراطية، ولعل الحدث الأشهر هو قيام الحزب الشيوعي الصيني بعزل شبكة الإنترنت في الصين عن بقية العالم. يخضع الشعب الصيني للرصد والمراقبة ويتعرض للخداع بواسطة الدعاية والمعلومات المضللة التي تبثها التطبيقات الذكية والشبكات ومعدات الشبكات الخاضعة لسيطرة الشركات الصينية، التي تحمل بدورها مسؤولية كل ما يقوله مستخدموها ويفعلونه على منصاتها. ينص مبدأالإنترنت السيادية” في الصين على امتلاك جميع الحكومات الحق بالسيادة والسيطرة على التقنيات والشبكات التي يسمح لمواطنيها استخدامها وطرق استخدامها، وهو مبدأ يقتنع به كثير من زعماء العالم الذين يخشون مواجهة معارضة سياسية قوية.

وتبني مبدأ السيادة على الإنترنت ليس حكراً على أمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل يتبناه أيضاً الزعماء المنتخبون بالطرق الديمقراطية الذين يسعون لتعزيز سلطتهم. خذ مثلاً الرئيس الهندي ناريندرا مودي، الذي قام مؤخراً بحظر التطبيقات الصينية، مثل “وي تشات” و”تيك توك”، مشيراً إلى مخاوف تتعلق بالأمن الوطني، ومستفيداً من ميزة جانبية إضافية تتمثل في منع قنوات الناشطين المعارضين.

سياسات دونالد ترامب تجاه التطبيقات الصينية

وفي الولايات المتحدة، تسعى إدارة ترامب إلى فرض سيادتها على الإنترنت بأسلوبها الخاص. إذ أعلن ترامب مؤخراً عن حظر التطبيقات التي تملكها الصين، مثل “تيك توك” و”وي تشات”، وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن توسيع برنامج شبكة الإنترنت “النظيفة” الذي يسعى لتطهير شبكات الولايات المتحدة من الشركات والتقنيات الصينية. بالفعل، هناك مخاوف أمنية محقة حول تقنية الشبكات التي تبيعها شركة “هواوي” الصينية. ومن المؤكد أن التطبيقين الصينيين “تيك توك” و”وي تشات” يخضعان للرصد والرقابة التي تفرضهما الحكومة الصينية، ما يوسع نطاق سيطرتها لتشمل مستخدمي التطبيقين في جميع أنحاء العالم. لكن إخراج التقنيات الصينية من الشبكات والمنصات الأميركية يحمي الناس من مراقبة الحكومة الصينية التي تتم عبر الشركات الصينية مباشرة ليس إلا، ولن يفيد في حماية المستخدمين من هجمات الاختراق والتجسس، ومنها الهجمات التي تتم برعاية الدولة الصينية، والتي تستغل نقاط الضعف الأمنية ومعايير الخصوصية الرخوة في الشركات.

إذا انتُخب ترامب لولاية أخرى، فستعمل سياساته على تعزيز جهود الحكومات في جميع أنحاء العالم لعزل أجزاء مختلفة من شبكة الإنترنت من أجل خدمة أهدافها الجيوسياسية والمحلية، وجعل هذه الجهود مشروعة. يساعد التأكيد على سيادة الإنترنت بالفعل الزعماء الحاليين وأحزابهم السياسية في قلب الموازين من أجل التلاعب في الانتخابات وتصنيع شرعيتهم الخاصة، وخصوصاً في الدول التي تعاني من ضعف أو تدهور في سيادة القانون التي تشهد تراجعاً مطرداً في العالم أجمع وفي الولايات المتحدة أيضاً. إذا ساعدت إدارة ترامب في جعل حظر التطبيقات والمنصات بأكملها وحجبها أمراً طبيعياً، فسيزداد الزعماء الأقوياء قوة.

وصلت الثقة الدولية بين الحكومات والشركات والأفراد إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، وحتى بين الدول الديمقراطية الحليفة والدول التي تربط بينها شراكات تجارية قديمة. في شهر يوليو/ تموز، ألغت محكمة العدل الأوروبية اتفاقية درع الخصوصية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهي آلية قانونية تتيح للشركات الأميركية نقل البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. (على سبيل المثال، عندما يستخدم شخص ما في أوروبا خدمة “جوجل”أو“دروب بوكس”لتخزين المستندات ومشاركتها، فقد يتم تخزين هذه البيانات أو تمريرها عبر خوادم الكمبيوتر في الولايات المتحدة.) إذ قررت المحكمة أن السلطة القضائية الأميركية لا تحمي حقوق الأوروبيين بما يكفي، وأشارت إلى عجز القانون الأميركي عن توفير حماية كافية للخصوصية؛ وإلى برامج المراقبة التي تتيح وصول الوكالات الحكومية الأميركية إلى البيانات الشخصية بصورة أوسع مما ينبغي؛ كما أشارت إلى غياب حق المواطنين الأوربيين في ممارسة العمل الخاص في المحاكم الأميركية.

قرار المحكمة بإبطال اتفاقية نقل البيانات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هو الثاني من نوعه، وهذا يعني الكثير، لأنه إذا فشل مجلس النواب التالي في تمرير قانون فيدرالي قوي للخصوصية وإقرار إصلاحات كبيرة فيما يخص المراقبة في الولايات المتحدة، فسيفرض الاتحاد الأوروبي حدوداً رقمية أقوى، ما سيؤدي إلى تقسيم الإنترنت أكثر.

وإذا رفض الشعب الأميركي انتخاب ترامب لولاية ثانية، فسيكون لزاماً على إدارة جو بايدن وكامالا هاريس استعادة سياسة الإنترنت الأميركية وتجديد الالتزام برؤية شبكة الإنترنت المفتوحة التي تتيح تدفق البيانات والمعلومات بحرية. يجب أن يتخذ مجلس النواب خطوات حاسمة من أجل حماية مستخدمي الإنترنت من إساءة استخدام السلطة الرقابية الحكومية؛ ويجب وضع حدّ للممارسات الجائرة والغامضة لتتبع البيانات التجارية، إذ إنها تتيح للمنصات والجهات المعلنة التلاعب بسلوك المستخدمين، وتوفر مخزوناً كبيراً من البيانات السلوكية المتاحة حالياً في السوق المفتوحة ويمكن لأي جهة شراءها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا يشمل مجموعة من وكالات الاستخبارات. ستعمل الإجراءات التشريعية التي تهدف لحماية حقوق الأشخاص الذين يستخدمون شبكات الشركات الأميركية ومنصاتها على تسهيل عمل الحكومات والشركات معاً نحو رفع مستوى معايير الشفافية والمساءلة.

شفافية الوصول إلى البيانات

معايير الشفافية المتعلقة بقدرة الحكومة على الوصول إلى البيانات هي الخطوة الأساسية التالية، ومن المرجح أن الدول التي تسعى إلى الاستفادة من المشاركة في شبكة الإنترنت المفتوحة والمترابطة ستحذو حذو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إذا أخذا زمام المبادرة. ففي عام 2013، على أثر ما كشف عنه إدوارد سنودن، المتعاقد مع وكالة الأمن الوطني الأميركية سابقاً، سعت شركات أميركية كثيرة إلى ترميم الشرخ الذي أفقدها ثقة مستخدميها حول العالم فيما يخص مدى قدرة جهات المراقبة الأميركية على الوصول إلى بياناتهم لديها. إذ بدأ عدد متزايد من الشركات بنشر “تقارير حول الشفافية” تضم معلومات حول ما تتلقاه وتمتثل له من طلبات حكومية لبيانات المستخدمين، من أجل توضيح حجم هذه الطلبات وطبيعتها. ومنذئذ، حذت حذوها بعض شركات الاتصالات الأوروبية، مثل الشركة الإسبانية متعددة الجنسيات “تيليفونيكا” (Telefónica)، والشركة السويدية “تيليا” (Telia)، وكذلك بعض الشركات في شرق آسيا، مثل تطبيق “كاكاو” (Kakao) في كوريا الجنوبية وتطبيق المحادثة الياباني الكوري “لاين” (LINE). ومع تزايد التدقيق في واشنطن على الآثار المترتبة على أصول تطبيق “تيك توك” الصينية، عمدت الشركة التي تملكه لإصدار تقرير خاص بها حول الشفافية. كما تعهدت الشركة المالكة لتطبيق “زووم”، وهي أميركية تجري عمليات كبيرة في الصين، بنشر تقارير حول الشفافية لتهدئة مخاوف المستهلكين والجهات الرقابية. لكن هذه التقارير حول الشفافية لا تزال حتى الآن اختيارية ومتفاوتة من ناحية الجودة والنطاق، ولا يتم تدقيقها والتحقق منها بصورة مستقلة، ويمكن للجهات المشرعة تغيير ذلك.

يمكن للحكومات، التي تسعى إلى تحسين الثقة المتبادلة مع الدول الأخرى، إلزام الشركات التي تجاوزت حجماً معيناً بتقديم تقارير حول الشفافية، أو منح شهادة رسمية للشركات التي تقدم تقارير حول الشفافية تفي بمعايير معينة بعد أن تخضع للتدقيق. والأهم هو أنه يجب على الحكومات نفسها التعامل بشفافية أكبر وتحمل المسؤولية أكثر فيما يخص نشاطاتها الرقابية التي تقوم بها من خلال الخدمات الرقمية التجارية.

توصل تقرير صدر عام 2017 عن وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية إلى أنه على الرغم من اتخاذ بعض الدول خطوات باتجاه تحقيق شفافية ومساءلة أكبر في الممارسات الرقابية، فإن فاعلية آليات المراقبة متفاوتة وقدرة المواطنين على الحصول على حلول قانونية في حال تعرضهم للإساءة ليست صريحة عموماً. يصدر مكتب الاستخبارات الوطنية الأميركية بالفعل تقريراً سنوياً يحتوي على بيانات حول استخدام سلطات المراقبة الوطنية.

وثمة أدلة ضمن أحدث تقرير على أن مكتب التحقيقات الفيدرالي لم يمتثل للمتطلبات التي تمنحه صلاحية استخدام هذه السلطات مؤخراً. ومع ذلك، ليس من الممكن حالياً أن يحصل المستخدمون الأوروبيون للخدمات الرقمية الأميركية على تعويض عن هذا النوع من إساءات السلطات الرقابية. ويعتبر إنشاء مثل هذه الآليات والمعايير الدولية، بين الدول التي تتمتع بسيادة القانون القوية وحماية حقوق الإنسان، ضرورياً في بناء الثقة في صلاحية شبكة الإنترنت المفتوحة واستحسانها، حيث يمكن للبيانات والمعلومات التدفق بين الدول بحرية.

يجب على الولايات المتحدة العمل مع حلفائها من أجل ضمان أن يتم تصميم المنصات والخدمات والأجهزة الرقمية وتشغيلها وحوكمتها على نحو متسق مع المعايير العالمية لحقوق الإنسان. في عام 2011، بعد مضي أكثر من عام على إطلاق وزيرة الخارجية الأميركية حينئذ، هيلاري كلينتون، جدول أعمال إدارة أوباما لحرية الإنترنت العالمية، أطلقت الولايات المتحدة وهولندا تحالف الحرية على الإنترنت، وهو “مجموعة من الحكومات التي تعهدت بأن تتعاون من أجل دعم حرية الإنترنت وحماية حقوق الإنسان الأساسية، وهي حرية التعبير وتشكيل المنظمات والتجمع والتمتع بالخصوصية على الإنترنت، في جميع أنحاء العالم”. ومنذئذ، ارتفع عدد أعضاء هذا التحالف، الذي لم يحظ باهتمام الإعلام منذ تأسيسه، من 15 عضواً إلى 32 عضواً. يعمل هذا التحالف بقيادة وزارات خارجية الدول الأعضاء، التي تتداول التصريحات والبيانات الدبلوماسية في الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات متعددة الأطراف المختصة بالسياسات، لكنها لا تؤثر في التشريعات الوطنية في الدول الأعضاء أو ممارسات وكالاتها المحلية المختصة بالرقابة.

لا توجد حالياً آلية محددة لمساءلة الدول الأعضاء عن التزاماتها في مجال حقوق الإنسان. لكن على أقل تقدير، يجب أن تقدم الدول الأعضاء خطط العمل التي تتبعها للوفاء بالتزاماتها في حماية حقوق الإنسان على الإنترنت؛ ويجب تبني مقياس أساسي متمثل في تقييم درجة توافق القوانين الوطنية الخاصة بالإنترنت مع معايير حقوق الإنسان الدولية، مع تقديم تقرير عن التقدم الذي يتم إحرازه في إصلاح القوانين التي لا تحقق ذلك، مصحوباً بردود فعل المجتمع المدني المستقلة؛ ويجب توجيه تنبيه للدول التي لا تبدي أي تقدم أو تبدي سوء نية واضحاً، وصولاً إلى طردها من التحالف إن لزم الأمر.

في جميع أنحاء أوروبا، يتنامى الزخم التشريعي فيما يخص مطالبة الشركات بأن تتخذ إجراءات الفحص النافي للجهالة الرسمية من أجل تحديد التأثير الذي توقعه عملياتها التجارية على حقوق الإنسان، وأن توضح للمساهمين والمستهلكين ما تفعله من أجل تخفيف الضرر. يجب أن تعمل الإدارة الأميركية الجديدة مع مجلس النواب من أجل تمرير قوانين مماثلة تهدف إلى تمكين المستهلكين والمساهمين من مساءلة الشركات التي تقدم خدمات رقمية لملايين الأميركيين فيما يخص مدى اهتمامها بالتأثير الذي توقعه نماذج أعمالها وتصميمات منتجاتها على حقوق المستخدمين. يجب أن تتضمن قوانين الفحص النافي للجهالة هذه في أوروبا والولايات المتحدة حقوقاً رقمية، مثل حرية التعبير والخصوصية.

إن رؤية ترامب حول سيادة الإنترنت هي محاولة للتغلب على الصين في لعبتها المتمثلة في تنافس القوى العظمى في مجالات النفوذ الرقمية، لكن هذه الرؤية لا تقدم شيئاً لشعوب الدول الأخرى سوى دعوة للانحياز إلى أحد الأطراف في المنافسة بين القوى العظمى ولا تمكننا من إنقاذ شبكة الإنترنت في الولايات المتحدة الأميركية. يجب على إدارة بايدن معالجة التحديات الحقيقية التي تفرضها الصين مع استعادة الإيمان العالمي بشبكة إنترنت مفتوحة وقابلة للتشغيل المشترك تعتمد عليها المجتمعات والأسواق المفتوحة. سيحتاج جدول الأعمال الخاص بالخصوصية والأمان والشفافية والمساءلة إلى قيادة استثنائية ورغبة سياسية في تنفيذه، ويبدو أن مستقبل الديمقراطية في جميع أنحاء العالم يعتمد على هذا الجدول.