ما هي تداعيات إنشاء روسيا شبكة إنترنت منفصلة خاصة بها؟

6 دقائق
ما هي تداعيات إنشاء روسيا شبكة إنترنت منفصلة خاصة بها؟
حقوق الصورة: إم إس تيك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لقد كان انفصال روسيا عن خدمات الإنترنت الغربية سريعاً وقاطعاً بشكل مماثل لانفصالها عن مسارات التجارة العالمية.

فقد قامت السلطات الروسية بحظر موقع فيسبوك بالكامل، على حين يكاد تويتر ينضم إليه قريباً. كما انسحبت المزيد من الشركات طوعاً من السوق الروسية، بما فيها “آبل” (Apple)، و”مايكروسوفت” (Microsoft)، و”تيك توك” (TikTok)، و”نتفليكس” (Netflix)، وغيرها. ويبدو أن روسيا ستنضم بسرعة إلى دول أخرى منبوذة رقمياً، مثل إيران.

أما الاتحاد الأوروبي، بدوره، فإنه يسعى إلى مسح مصادر الأخبار الروسية بشكل شبه كامل من الإنترنت، حيث تشير التوجيهات إلى توسيع الحظر ليشمل وكالتي (RT) (سابقاً روسيا اليوم أو “Russia Today”) و”سبوتنيك” (Sputnik) المملوكتين حكومياً، بحيث لا يقتصر الحظر على حجب المواقع الإلكترونية، بل يفرض على محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي حذف أي منشورات تكرر أي محتوى من هذه المواقع.

ولكن كل ما سبق مجرد خدمات تعتمد على الإنترنت، وليست تكنولوجيات أو اتفاقيات تعتمد عليها الإنترنت، فحظر موقع فيسبوك في بلد ما لا يختلف عملياً عن انسحاب شركة فيسبوك من هذا البلد، أو ببساطة إفلاسها أو إغلاقها للموقع.

كيف ستؤثر هذه العزلة الرقمية على شبكة الإنترنت؟

ولكن هناك المزيد من الانشقاقات المقبلة، والتي ستنتج عن إجراءات من كلا الطرفين. فقد أعلنت روسيا أن شركة “ميتا” (التي تمتلك فيسبوك وإنستقرام وواتساب) هي “منظمة متطرفة”، كما أعلنت انسحابها من عدد من هيئات الحوكمة، مثل مجلس أوروبا، كما عُلقت عضويتها في اتحاد البث الأوروبي (European Broadcasting Union). وإذا تكررت مثل هذه الإجراءات مع الهيئات التي تنظم عمل شبكة الإنترنت، فقد تكون النتائج مزلزلة. 

وقد أثارت هذه الإجراءات مخاوف من “الإنترنت المنفصلة” (أو سبلنترنت “splinternet”، أو الإنترنت المقسمة)، حيث تختفي شبكة الإنترنت الموحدة العالمية الموجودة حالياً، وتظهر بدلاً منها عدة شبكات وطنية أو إقليمية لا تتواصل مع بعضها بعضاً، بل وربما حتى تعمل باستخدام تكنولوجيات غير متوافقة. 

وسيعني هذا نهاية الإنترنت كتكنولوجيا عالمية موحدة للتواصل، وربما ليس بشكل مؤقت، فما زالت الصين وإيران تستخدمان نفس تكنولوجيا الإنترنت التي تعتمد عليها الولايات المتحدة وأوروبا، حتى لو كانت الخدمات المتاحة عليها محدودة. وإذا قررت هذه البلدان تأسيس هيئات تنظيمية منافسة وشبكة إنترنت منافسة، فلن يعود من الممكن إعادة بناء الإنترنت سوى باتفاق شامل ومتبادل بين جميع الدول الكبرى في العالم، وستنتهي حقبة العالم المتصل.

اقرأ أيضاً: أوروبا تخطط لبناء شبكة إنترنت فضائي تنافس مشروع ستارلينك

هل بدأت حقبة العالم المنفصل فعلاً؟

وفي الواقع، فإن التحركات نحو تحقيق هذا الأمر بدأت مسبقاً، ففي الشهر الماضي، دعت الحكومة الأوكرانية منظمة “آيكان” (ICANN) (شركة الإنترنت للأرقام والأسماء المُخصصة)، والتي تشرف على نظام أسماء النطاقات في الإنترنت، إلى تعليق وصول روسيا إلى النظام، أي إزالة المواقع التي تنتهي باللاحقة “.ru” من الإنترنت.

ولكن آيكان، والتي ظهرت كفرع من وزارة التجارة الأميركية، ولكنها الآن تعمل كمنظمة غير حكومية، رفضت الاقتراح بشكل قاطع.

“إن الإنترنت نظام لا مركزي. ولا يوجد لدى أي طرف القدرة على التحكم بها أو إيقافها”، كما كتب المدير التنفيذي غوران ماربي في رده على الاقتراح. “لقد تم تأسيس آيكان لضمان عمل الإنترنت، لا لاستخدام دورها التنسيقي لإيقاف الإنترنت عن العمل”.

وفي الواقع، فإن تحذير ماربي له ما يبرره، حيث لا تتمتع آيكان بأي سلطة قانونية أو تشريعية على نظام أسماء النطاقات، حيث إن قراراتها مقبولة طوعاً من قبل جميع مشغلي الإنترنت. وهو ما يجعل عملية اتخاذ القرار فيها بطيئة ومتثاقلة (فيجب أن يتم الاتفاق على كل شيء بالإجماع)، ولكنها قادرة على الحفاظ على تماسك الإنترنت.

وتعمل جميع الهيئات المنظمة لأعمال شبكة الإنترنت بنفس الطريقة، فهي هيئات دولية مستقلة تعمل بالتوافق، لا بالقوة. ومن شبه المتفق عليه على أنها طريقة غريبة وخرقاء لإدارة هذه البنية التحتية العالمية والهامة، ولكن البديل الذي يحوز على موافقة الجميع لم يظهر حتى الآن. 

فمحاولة الاتفاق على طريقة إدارة جديدة للإنترنت سيتطلب اتفاقاً تجمع عليه دول العالم، وهو شيء نادر لدرجة أنه غير موجود حتى الآن في القرن الواحد والعشرين. ولكن هذا يعني أن تماسك الإنترنت لا يعتمد على أكثر من الاتفاق الطوعي المتبادل.

وبالتالي، ما هو الشكل الذي ستأخذه الإنترنت المنفصلة عملياً؟ وإلى أي درجة نحن قريبون منها؟

اقرأ أيضاً: لماذا تشكل شبكة الإنترنت المحلية الروسية تهديداً لشبكة الإنترنت العالمية؟

كيف سيصبح شكل شبكة الإنترنت؟

إن الفصل الفعلي للإنترنت –والذي يجب تمييزه عن استخدام البلدان المختلفة لمنصات مختلفة على نفس الهيكلية- يمكن أن يأخذ أحد شكلين، وذلك وفقاً لميلتون ميولر من مدرسة السياسات العامة في معهد جورجيا للتكنولوجيا.

ويقول: “يتضمن الفصل الكبير والجدي للإنترنت استخدام بروتوكول غير متوافق تقنياً مع البروتوكولات الحالية، وذلك من قبل نسبة كبيرة من سكان العالم”. 

وهذه الخطوة الأولى لن تكون كارثية. ويقول ميولر: “ومن المرجح أن يتمكن أخصائيو التكنولوجيا من إيجاد طريقة لتحقيق التوافق بين البروتوكولين بسرعة”.

أما الشكل الثاني من الفصل فهو مواصلة استخدام بروتوكولات متوافقة، ولكن بوجود هيئات تنظيمية مختلفة تدير هذه الخدمات. وهنا، قد يكون التراجع أكثر صعوبة.

فإذا قامت روسيا أو الصين أو بعض البلدان الأخرى بتشكيل هيئات منافسة لإدارة عناوين بروتوكول الإنترنت (IP) وأنظمة أسماء النطاقات (DNS) وأسست هذه الهيئات، فقد تكون إعادة توحيد الشبكة أمراً أكثر صعوبة من حالة بناء بروتوكولات غير متوافقة فنياً، فهذا سيعني بدء تشكل مصالح متضاربة، والرغبة في البقاء مع أحد الجانبين، ما يجعل صياغة السياسات عند إعادة الاتصال بين الشبكات أمراً شبه مستحيل. 

وبالتالي، فإن مشكلة إعادة اتصال هذه الشبكات المتفرقة للحصول على إنترنت واحدة عالمية ستصبح مشكلة سياسية –وهي الأصعب حلاً في أغلب الأحيان- لا مشكلة فنية.

أيضاً، فمن المحتمل أن يتم اتخاذ خطوات أقل من الفصل الكامل للإنترنت، ولكن بآثار فادحة تتمثل بإعاقة التدفق العالمي للمعلومات، أو العمل السلس للإنترنت في الدول المنبوذة.

ونظراً لميل الإنترنت إلى تشكيل الاحتكارات، فإن بعض الخدمات أصبحت أقرب إلى بنى تحتية قائمة بحد ذاتها. وعلى سبيل المثال، فإن خدمات أمازون ويب تشغل قسماً كبيراً من البنية الداخلية للإنترنت، لدرجة أن حظرها في منطقة ما سيؤدي إلى مشاكل لا حصر لها. وبشكل مماثل، فإن حظر الوصول إلى مخازن “غيت هاب” (GitHub) السحابية سيؤدي إلى شلل في الكثير من الخدمات، على الأقل مؤقتاً.

اقرأ أيضاً: الإنترنت تقصي الآسيويين الأميركيين ممن لا يتحدثون الإنجليزية

كيف واجهت بعض الدول عزلتها الرقمية؟

لقد كانت روسيا تحاول التقليل من هذا الخطر في المواقع الرسمية والعامة، وحاولت أن تفرض عليها إعادة بياناتها إلى البلاد، واستخدام نطاقات “ru.”، والتقليل من الاعتماد على مزودي الخدمات من ما وراء البحار. ولفترة من الوقت تخللها الكثير من القلق والارتباك، اعتبر البعض هذه التوجيهات بمثابة تعليمات ملزمة لجميع المواقع الروسية، بل وأدى حتى إلى مزاعم مثيرة للقلق (ولكن لم يتم إثباتها حتى الآن) تشير إلى أن روسيا تخطط لفصل نفسها عن الإنترنت بالكامل.

لقد حاولت بلدان ومجموعات أخرى أيضاً التخفيف من الطبيعة العالمية للإنترنت، ولم يقتصر هذا على البلدان الأوتوقراطية وحسب، فقد كان الاتحاد الأوروبي يسعى إلى حصر جميع البيانات المتعلقة بمواطنيه ومعالجتها ضمن حدوده، وهو إجراء واجهته الشركات التكنولوجية الأميركية العملاقة بمعارضة عنيفة.

أما إيران فقد قامت ببناء شبكات اتصال وطنية بين مؤسساتها الرئيسية على الإنترنت، ما سمح لها بتشغيل ما يشبه شبكة إنترنت وطنية مصممة للعمل ضمن حدود إيران فقط في حال قررت عزل نفسها عن الشبكة العالمية، أو تعرضت للطرد منها على يد أعدائها.

غير أن الصين، على الأرجح، هي الدولة الأكثر شهرة بتعقيد علاقتها مع الإنترنت، فعلى الرغم من أن الشركات صينية النشأة يمكنها تحقيق النجاح في الغرب في أغلب الأحيان –وتكفي شركة تيك توك مثالاً على هذا- فإن الغالبية العظمى لخدمات الإنترنت التي يستخدمها الناس ضمن الصين تعود لشركات صينية. كما أن الصين أيضاً تدير عملية روتينية ومنتظمة وضخمة للرقابة على الإنترنت، والتي تشير إليها عادة باسم سور الصين العظيم الناري.

ويقول تشارلي سميث (وهو اسم مستعار اتخذه لنفسه لأنه يعمل في الصين وينتقد سياساتها الرقابية) من موقع “GreatFire” الذي يتابع مسائل الرقابة في الإنترنت الصينية إن علاقة الصين بالإنترنت العالمية تغيرت مع الزمن.

“في البداية، كان الحظر على مستوى الخدمات مدفوعاً بالحاجة الصرفة إلى الرقابة، مثل الحاجة إلى إخفاء معلومات حول شي جينبينغ، أو التغطية على كارثة هائلة تتيح توجيه اللوم إلى الحكومة مباشرة”، كما يقول. ويضيف: “ولكن، ومع حجب هذه المواقع الأجنبية، أدرك رواد الأعمال الصينيون وجود ثغرة في السوق، وهي ثغرة يمكن ملؤها، ولم يقوموا بسد الثغرات وحسب، بل ساعدوا أيضاً على بناء شركات الإنترنت الصينية التي لا تقل قيمة عن مثيلاتها الغربية، حتى لو لم تكن قد أثبتت وجودها بقوة خارج الصين”.

وبفضل هذه المؤسسات المستقلة والتي تعمل منذ زمن، يقول سميث إن الصين يمكن أن تتدبر أمرها عند فصلها عن الإنترنت، على الرغم من أن هذا ليس في مصلحتها عموماً.

ويقول: “أعتقد أن الصين قادرة على فصل نفسها عن الإنترنت العالمية، كما أعتقد أنه من المرجح أن تفعل هذا في حال وجود أزمة محلية كبيرة بما يكفي، ولكنني أعتقد أيضاً أن الصين ستواصل الاعتماد على الإنترنت العالمية، فالشتات الصيني منتشر في جميع أنحاء العالم، ولا أحد يرغب بقطع الصلة مع الوطن، وستواصل الشركات اعتمادها على بيع منتجاتها فيما وراء البحار”.

وبدلاً من ذلك، فإن الصين تحتل مواقع أساسية في الهيئات التنظيمية المختلفة لشبكة الإنترنت -كما يليق بدولة تحتوي على أكثر من مليار مستخدم إنترنت- وتعمل حالياً، وبهدوء، على تغيير المعايير والقواعد والبروتوكولات بما يناسبها.

ما زالت الإنترنت المنفصلة أمراً محتمل الحدوث –بسبب السياسة، لا التكنولوجيا- ولكن يبدو حالياً أن الجميع يحاولون التشبث وتحريك الوضع الحساس بما يناسبهم، لأنه يبدو أن انفصال الإنترنت قد يكون مستحيل الإصلاح.