حوار مع د. عائشة بن بشر: كيف تكون مدننا الذكية أكثر مرونة؟ الدروس المستفادة من وباء فيروس كورونا

13 دقيقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في إطار تغطيتنا الشاملة والمكثفة لتطورات فيروس كورونا التي تهدف إلى إبقاء قرائنا من جميع أنحاء العالم على اطلاع دائم بمستجدات الموضوع، أجرت رئيسة تحرير منصة إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية ضيا هيكل حواراً مباشراً مع الدكتورة عائشة بن بشر، المديرة العامة لدبي الذكية، تم خلاله مناقشة التحول الرقمي في مدننا وأهميته في منحها القدرة على التأقلم ومواكبة سرعة التغيير الذي نمر به، حتى نتمكن من الاستمرار في عملنا وتعليم أولادنا وممارسة حياتنا بشكل شبه طبيعي، وتناول الحوار نموذج مدينة دبي ودور التقنيات والأدوات التي وفرتها دبي الذكية في جعل المدينة أكثر مرونة وقدرة على متابعة عملياتها في وجه الوباء.

مقتطفات من الجلسة الحوارية مع د. عائشة بن بشر.

مع بقائنا في المنزل وتغير طريقة حياتنا بشكل كامل خلال أسابيع فقط واضطرارنا للتأقلم مع أساليب جديدة للتعلم والعمل والتواصل، أدركنا بشكل أكبر أهمية المدن الذكية مثل دبي وقدرتها على تمكيننا من ممارسة حياتنا العادية خلال الوباء. هل يمكن أن تقدمي لنا لمحة عن المدينة الذكية وأهدافها؟

المدينة الذكية هي مدينة توظف التكنولوجيا الحديثة والحلول الذكية في خدمة المجتمع والناس من أجل تحسين جودة الحياة والخدمات المقدمة لهم، خاصة في القطاعات الحيوية مثل النقل والاتصالات والصحة والتعليم وغيرها، بشكلٍ يراعي تنوع فئات المجتمع والأوضاع الاقتصادية لأفراده. كما يشمل مفهوم المدينة الذكية الحفاظ على البيئة وتعزيز مشاركة الأفراد في عمليات التطوير والتنمية، وهو الأمر الذي يساهم في نهاية المطاف في تقديم تجارب حياتية استثنائية وتجعل الأفراد أكثر رضا وسعادة ويضمن حدوث تنمية مستدامة للمجتمع في شتى المجالات.

هل أدى وباء كورونا إلى تعديل تعريفك للمدينة الذكية؟

رغم أن هذا الوباء لم يُحدِث تغييراً جذرياً في تعريفنا للمدينة الذكية، لكنه أضفى المزيد من الوضوح حول كيفية تطبيق منظومة المدينة الذكية والاستفادة منها؛ حيث إن المدن التي عملت منذ سنوات على بناء منظومتها الذكية للتنمية المستدامة استطاعت الصمود والاستمرار في مواجهة الظروف الصعبة المترتبة على أزمة كورونا.

في السابق، كان يُنظر إلى الاستثمار في هذا المجال على أنه غير مجدٍ، لكن اتضح اليوم أن المدن التي استثمرت فيه كانت الأقل تضرراً من توقف الكثير من القطاعات وأبرزها العمل الحكومي. فقد استطاعت المدن الذكية أن تقدم منظومة فعالة وسريعة لاستمرار العمل عن بعد ونجحت في تحويل التعليم إلى عملية تتم عن بعد بشكل كامل. كما قدمت التطبيقات الذكية وسيلة للأفراد لمتابعة معاملاتهم اليومية من منازلهم.

ويعود الفضل في ذلك إلى توفير أدوات وحلول ذكية جعلت من السهل ممارسة أغلب مهام عملنا اليومي من المنزل، وبشكل يتوافق مع قواعد الحجر المنزلي وتقييد الحركة لتجنب اتساع دائرة الوباء؛ إذ سمح لنا توافر هذه الأدوات في دبي ودولة الإمارات بشكل عام متابعة ممارسة حياتنا وتقليل الضرر على الاقتصاد، لأن الجميع تمكن من العمل عن بعد من دون أي عقبات.

ذكرتِ نقطة مهمة جداً، قمتم في دبي الذكية باستثمارات تقنية في وقتٍ مبكر نسبياً بدت في حينها غير مهمة، هل من الممكن أن تعطينا مثالاً عن استثمار في إحدى التقنيات وكيف تمت الاستفادة منها في ظل الأزمة الحالية؟

كانت معظم التقنيات التي استثمرت فيها حكومة دبي مُكمِّلة لبعضها البعض، ونشهد اليوم تأثيراتها الإيجابية على المجتمع والناس في جميع المجالات وضمن منظومة متكاملة تغطي كافة عناصر وقطاعات المدينة. في السابق عندما كنا نستثمر في بنى تحتية رقمية، كنا نشعر بوجود بعض المعارضة من قِبل أطراف ليس لديها قصيرة النظر تتساءل عن أهمية هذه الاستثمارات، لكن الرؤية المستقبلية لقيادة الإمارات شجعتنا على الاستثمار في هذه البنية التحتية وبنائها حتى قطفنا ثمارها اليوم. فقد أثبتت التطبيقات والخدمات التي صممناها سابقاً دورها الكبير والعميق والفعال في تجاوز الظروف التي نواجهها اليوم.

وعلى سبيل المثال، في مجال العمل الحكومي عن بعد، لدينا خدمة نظم تخطيط الموارد الحكومية- تطبيق الموظف الذكي، التي هي عبارة عن بوابة إدارية لجميع مهام الموارد البشرية والمشتريات والتمويل والحسابات الداخلية. ويوفر هذا التطبيق اليوم العديد من الخدمات التي تستخدمها 71 جهة حكومية في دبي تضم 52,000 موظف وموظفة، فرواتبهم وتدريبهم وإجراءاتهم كلها مستمرة على مدار الساعة. كذلك لدينا تطبيق المورِّد الذكي، الذي يتيح للمورِّدين المسجلين ضمن نظم تخطيط الموارد الحكومية الوصول إلى البيانات والعقود والمناقصات والمعاملات المالية في الجهات الحكومية، وهذا يعني أنه حتى المتعاملين مع الحكومة من القطاع الخاص لن يتضرروا، فالمناقصات والعقود والمشاريع مستمرة.

أما عندما نتكلم عن الخدمات المقدمة للجمهور، فهناك العديد من تطبيقات الهاتف المحمول التي تبينت أهميتها الكبرى اليوم، مثل تطبيق دبي الآن وتطبيق الهوية الرقمية. فقد ساعدتنا هذه التطبيقات على ممارسة الابتعاد الاجتماعي والتزام الحجر الصحي؛ حيث يقدم تطبيق دبي الآن للمقيمين والزائرين في دبي الوصول إلى 116 خدمة في القطاع الحكومي والخاص بشكل رقمي كامل. وأنوه أيضاً إلى أن أدواتنا الداخلية في دبي الذكية قد ساهمت بشكلٍ كبير في تمكين أداء العمل عن بعد بشكل سهل وسلس ومن دون معوقات تذكر.

ومن التطبيقات التقنية الرقمية الأخرى هناك نظام سيسكو جابر الذي يتيح إجراء مكالمات ومراسلات واجتماعات من المنزل، وفق أعلى معايير الأمن والسرية لجميع الموظفين. كما اعتمدنا نظام ويبكس ومايكروسوفت تيمز الذي يوفر إمكانية عقد الاجتماعات عن بُعد مع أطراف مختلفة وتسجيلها، ويتيح التواصل المسموع والمرئي والدردشة ومشاركة المحتوى معهم.

لقد حفزتنا كل هذه الأنظمة على عدم تغيير أسلوب العمل؛ حيث تم إخلاء المكاتب والانتقال إلى العمل من المنزل بسهولة، مما سمح بمتابعة مهامنا اليومية واستكمال إجراءاتنا.

واليوم، أنا فخورة جداً بمنظومتنا الرقمية في إمارة دبي لأنها ساهمت في توفير سلاسة العمل عن بعد في ظل هذه الظروف.

كيف يساعد تطبيق دبي الآن الناس على العمل عن بعد ومنحهم الفرصة لعيش حياة طبيعية نسبياً في ظل الابتعاد الاجتماعي والتزام المنزل؟

أطلقنا منذ فترة حملة تحت وسم #استريح_خدماتنا_بتيك، نطمئن الناس من خلاله أنهم في أثناء بقائهم في منازلهم يمكنهم الاستفادة من أي خدمة من خدمات الحكومة دون الحاجة إلى الخروج ومخالطة الآخرين؛ إذ يوفر تطبيق دبي الآن 116 خدمة -كما ذكرت- تتيح لأي شخص الاستفادة من الخدمات التي توفرها أكثر من 33 جهة حكومية بشكل رقمي كامل.

وعلى سبيل المثال، يمكن دفع فواتير الكهرباء والمياه والاتصالات أو تجديد رخصة السيارة أو تسديد المخالفات باستخدام التطبيق. وإذا اضطر الشخص للخروج إلى محطة الوقود فلا داعي لحمل النقود ولمسها، حيث يمكن الدفع من خلال التطبيق. كما يتضمن التطبيق معلومات عن أماكن الصيدليات المفتوحة وعيادات الأطباء، بالإضافة إلى معلومات كاملة عن كوفيد-19 والحالات وأرقام الطوارئ، وكل ذلك موجود ضمن منظومة واحدة.
إن الأرقام التي حققناها خلال الأسبوعين الأخيرين تؤكد تجاوب الجمهور مع البرنامج والحملة؛ حيث ازداد استخدامهم لتطبيق دبي الآن وتم إجراء أكثر من 100 ألف معاملة خلال هذين الأسبوعين بقيمة أكثر من 50 مليون درهم إماراتي، وهذا يدل على أهمية هذه المنصة التي وفرتها دبي الذكية في خدمة الناس خلال هذه الفترة.

لو أردنا تعريف البنية التحتية الذكية لمدينة، ما هي؟ وما العناصر التي تتضمنها؟

هي مجموعة أدوات وتقنيات تجعل من المدن أكثر ارتباطاً وتجعل خدماتها أوسع تأثيراً وأكثر استدامة، بحيث تسمح بالتطور والاستجابة بشكل إيجابي وصحيح وفي مختلف الظروف. وقد أثبتت البنية التحتية الذكية في دبي قوتها خلال هذه الأزمة؛ حيث استطاعت استيعاب كافة المتغيرات التي أفرزها وباء كورونا وجعلتها فرصة، عوضاً عن أن تشكل تحدياً؛ فقد مثَّل وباء كورونا تحدياً كبيراً للكثير من المدن الأخرى وسبَّب شللاً كبيراً في جميع القطاعات، أما في دبي -ونظراً لتولفر هذه الأدوات والتقنيات- فقد استطعنا فعلاً أن نتابع ممارسة حياتنا بشكل طبيعي.

ومن هذه التقنيات، على سبيل المثال، هناك حلول علوم البيانات؛ حيث بدأنا منذ أكثر من أربع سنوات بالعمل على منظومة البيانات في إمارة دبي بهدف أن نتمكن في أي ظرف من اتخاذ قرارات ذكية بناء على معطيات واردة حول المدينة، مثل حركة وسائل النقل والحشود واستخدام منصات الخدمات الرقمية عبر الإنترنت. وقد سمحت هذه المنظومة للجهات الحكومية بالتأقلم مع احتياجات العمل عن بعد، مما أتاح لمختلف القطاعات متابعة نشاطها بسهولة وفعالية نتيجة وفرة المعلومات والبيانات التي ساعدت صناع القرار على نقل العمل من أرض الواقع إلى الواقع الافتراضي.

هل ساعدت البيانات الضخمة في إدارة الوباء الذي يهدد صحة السكان؟

نعم وبشكلٍ كبير؛ حيث أتاحت مشاركة البيانات الحكومية بالإضافة إلى الحلول الذكية الأخرى للجهات الحكومية أن ترصد طبيعة الأنشطة والاحتياجات في المدينة والتغير الحاصل في متطلبات الناس بصورة لحظية، وهذا سمح للحكومة بالاستجابة السريعة في اتخاذ قرارات صحيحة من شأنها مواجهة أي تداعيات ناجمة عن الحالة الطارئة الراهنة.

لقد دعمت البيانات عملية صناعة القرار، وهذا ما أطلق عليه القرار الذكي؛ لأنه مبني على توظيف التقنيات الذكية التي تستفيد من علوم البيانات في مخرجاتها، مما أسهم بشكل كبير في نجاح الإجراءات الاحترازية للمحافظة على صحة السكان.

وهناك إجراءات صحية تعتمد على استخدام البيانات الضخمة؛ مثل بيانات صحة المرضى والموقع الجغرافي والأسِرَّة في المستشفيات وأماكن وجودها، كلها ساعدت الحكومة على الاستجابة بشكل سريع لتحدي فيروس كورونا. بالإضافة إلى إدارة الموارد الصحية وتأمين العلاج العاجل للمرضى وإدارة عملية الابتعاد الاجتماعي وتتبع تنفيذ تدابير الحجر الصحي للمرضى والتنبؤ بحالات الإصابة بكوفيد-19 وتحليل متطلبات الرعاية الصحية الضرورية لعلاج هذه الحالات، وكذلك توظيف الإجراءات التي اتخذتها دبي من أجل تخفيض عدد حالات الإصابة المستقبلية. لقد استطعنا الاستفادة من البيانات حتى ننجح في إنجاز هذه العملية المتكاملة في إمارة دبي.

هل كل ما ذكرته هو بيانات متوافرة بالفعل ويتم استخدامها لإدارة المرض؟

نعم، هذه البيانات متوافرة سواء في القطاع الصحي أو بيانات المخزون الغذائي أو بيانات التنقل وغيرها؛ حيث بدأنا في العمل عليها منذ أكثر من أربع سنوات، فأصبحت لدينا وفرة في هذه البيانات ساعدتنا حتى في بناء نماذج للتنبؤ بمجريات هذا الحدث الطارئ.

ما هو تقييمك للجهات والشركات من حيث توظيف التكنولوجيا بشكل عام، وما مدى جاهزيتها في أوقات كهذه؟

برهنت الجهات الحكومية في دبي كفاءتها العالية وقدرتها على الاستجابة الفورية لأي تطورات عالمية، وذلك بفضل الرؤية الثاقبة للقيادة الرشيدة ونتيجة للإستراتيجيات الفعالة المحكمة التي وضعتها لبناء منظومة عمل متكامل ومستدام.

ومن اللافت أنه بعد البدء بتطبيق نظام العمل عن بعد، وجدت حكومة دبي أن العمل الحكومي يتم بنفس الكفاءة والسلاسة السابقة التي عهدناها. وهذا لم يأتِ من فراغ، وإنما ثمرة حرص دبي الذكية على التعاون بشكل وثيق مع الشركاء الحكوميين والقطاع الخاص.

فمنذ أن بدأت جائحة كورونا، استطعنا بفضل الشراكات مع القطاع الخاص مثل مايكروسوفت وسيسكو أن ننشر منظومة التواصل -القائمة على تطبيقات مثل مايكروسوفت تيمز وسيسكو جابر وويبكس- في كل المؤسسات الحكومية بحيث يستفيد الجميع منها. وهذه إحدى ثمار استثمارات شركات القطاع الخاص وتوفُّر خدمة سحابية في إمارة دبي، التي أتاحت إمكانية ربط الجميع بهذه المنظومة خلال أيام معدودة.

من خلال عملك في دبي الذكية والاستثمار في تقنيات لم تبدُ ضرورية في وقتها، واليوم بعد أن رأينا انتشار الفيروس وتداعياته، برأيك ما هو الاستثمار التقني الذي يمثل جزءاً لا يتجزأ من مدن المستقبل؟

في الحقيقة، هناك دروس كثيرة يمكن الاستفادة منها في ظل هذا الوباء. وقد تعلمت من مسيرتي المهنية ومن والدي -رحمه الله- أن التعلم من التحديات لا ينتهي بانتهائها؛ إذ لا يمكن القول بأننا نستثمر اليوم وانتهى الأمر، لكن يجب أن يستمر هذا النهج حتى بعد انتهاء الأزمات.

ويمكننا تشبيه الأزمة الحالية بالعاصفة الثلجية التي تشل حركة المدينة لكن تأثيرها لا ينتهي بذوبان الثلج، وإنما تبدأ تبعاتها في الظهور بعد ذلك ويجب دراسة كيفية التعامل مع هذه التأثيرات.

أعتقد أن المرحلة الحالية من أزمة كورونا ليست إلا مجرد رأس الجبل الجليدي، لكن في دبي الذكية وفي حكومة دبي بدأ الاستثمار الحقيقي في تقنياتنا بشكل مسبق ومبكر.

لقد اتخذنا بالفعل الخطوات الصحيحة في الوقت الصحيح مما جعلنا جاهزين مثلاً للانتقال بشكل فوري إلى العمل عن بعد.

إن الطرق التقليدية في العمل سواء الحكومي أو القطاع الخاص، مثل الحضور إلى المكتب وتسجيل الحضور إلى الدوام، مسألة يجب أن نعيد دراستها، وتمثل تجربتنا في العمل عن بعد أفضل طريقة حتى نستخلص دروساً نبني عليها الاستثمارات والتقنيات التي نحتاجها في المستقبل.

وعلى سبيل المثال، نحن في دبي الذكية استثمرنا في منصاتنا، ولم يكن هناك داعٍ لنشر تطبيقات التواصل على جميع المؤسسات، لكن بسبب توافر المنصة وقابلية نشرها على مستوى المؤسسات الحكومية، استطعنا خلال فترة بسيطة توفيرها للجميع.

لا نستطيع القول بأننا نخطط للمستقبل الآن وهذا يكفي، بل يجب أن تكون عملية التخطيط المسبق عملية دائمة ومستمرة.

فلنتحدث أكثر عن المستقبل، ينتظر الجميع انتهاء الوباء والعودة إلى الحياة الطبيعية، إذا تخلصنا فعلاً من الفيروس، برأيك كيف سيتغير تفاعلنا -كأفراد ومؤسسات- مع المدينة وتقنياتها بمفهومها العام؟

أعتقد أننا نصبح اليوم أكثر ولاء لمدننا وأكثر ارتباطاً بها وأكثر رغبة في تقديم الدعم للاستمرار والتنمية المستدامة بحيث تكون مدننا أكثر قوة وقدرة على مواجهة أي ظروف.

بعد كوفيد-19، أعتقد أن المدن التي استطاع سكانها مواكبة التوجيهات الحكومية فيها سيتمكنون من العودة لممارسة حياتهم الطبيعية بشكل أسرع من سكان المدن التي لم يتوافر فيها هذا الولاء بين المدينة والسكان.

وإذا ما تكلمنا عن التكنولوجيا، فسيكون هناك التزام أكبر وإقبال أشد للاستفادة من الحلول التقنية. وبالتأكيد هذا أمرٌ يعززه وعي الأفراد والمؤسسات بأهمية التحول الذكي.

في السابق، كان هناك تردد في الاستثمار في الحلول الرقمية وتشكيك في أهميته وتوقيته، أما اليوم فقد أصبح من الواضح أنه لا مفر من وجود هذه الأدوات لمتابعة عملياتنا اليومية. فقد ازدادت الثقة وارتفع الإقبال على هذه التقنيات خلال هذه الأزمة، وأعتقد أن هذا التوجه سيتسارع بعد كوفيد-19.

هل كان لدبي الذكية أي مشاركة في مجال التعليم عن بعد؟

يمثل التعليم عن بعد منظومة اتحادية، وتم ربط أكثر من 260 مدرسة حكومية بشبكة معلوماتية منذ سنوات، وكان هناك منظومة مشابهة في القطاع الخاص. لقد عملنا مع هذا القطاع على نشر وعي التحول الرقمي والذكي على مستوى المدارس، كما عملنا على مجموعة كبيرة من المشاريع مع هيئة المعرفة، مثل تمكين أولياء الأمر من تسجيل أولادهم في المدارس والتعرف على السجل التعليمي الكامل للطالب بشكل رقمي، وهذا كان أحد المقومات التي ساعدتنا على إنجاز هذه النقلة النوعية في مجال التعليم عن بعد.

وبعد كوفيد-19، سنشهد تحولاً كبيراً للجهات الحكومية وتقبلاً متسارعاً لعملية التعليم عن بعد والتعليم الذكي.

لن يكون العمل في المستقبل كالمعتاد بالذهاب إلى المكتب والدوام لساعات محددة، كيف سيتغير مستقبل العمل؟

في دبي الذكية، كانت لدينا سياسة للعمل عن بعد في السابق، لكن بعد أسبوع من تطبيق العمل عن بعد في ظل الأزمة الحالية، طلب مني الموظفون إمكانية استمرارهم في العمل من منازلهم.

أعتقد أنه سيكون من السهل في المستقبل الاستمرار في نموذج العمل عن بعد؛ حيث يتوافر الوعي اللازم لدى المؤسسات الحكومية لكيفية تقييم العملية الإنتاجية، وتوجد مؤشرات أداء واضحة. ويمكنني القول بأن العمل الحكومي في ظل كوفيد-19 أصبح أكثر نضجاً. وأتمنى من جميع الجهات الحكومية أن تبدأ في هذه الفترة استخلاص الدروس من هذه الأزمة والتخلص من العمليات التي عفا عليها الزمن ولا حاجة لها، وإعادة صياغة عدد كبير من العمليات بحيث تواكب القرن الحادي والعشرين.

لقد تم تصميم الكثير من الخدمات والعمليات في القطاع الحكومي خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قبل عملية الرقمنة. لكن من الصعب في الوقت الحالي تقديم خدمة وتصميمها بمعزل عن العمليات الرقمية. لا بد من توافر وعي بفوائد الأدوات الرقمية حتى تساعدنا في إعادة صياغة هذه الخدمات.

وهناك عدد كبير من الشباب الذين انخرطوا في العمل خلال السنوات الخمسة الماضية، ولدى هؤلاء نوع من الإصرار على تغيير طبيعة العمل. وقد يساعد إشراكهم القائم حالياً في عمليات اتخاذ القرار المؤسسات الحكومية على تسريع التغيير بشكل رقمي يتماشى مع المعايير العالمية.

هل تعتقدين أن التعاون بين القطاع الحكومي والخاص سيتغير في المستقبل؟ حيث نرى اليوم شراكات بين الشركات التقنية الكبرى مثل آبل وجوجل اللتين تعاونتا في إطلاق خدمة تتبع الاحتكاك، حتى أن هناك تجاوباً من قِبل المجتمع المدني، حيث نرى قيام أشخاص بتصنيع الكمامات في المنزل ويتطوعون في المستشفيات. هل تتوقعين تغيراً في طبيعة التعاون بين القطاع الحكومي والخاص لإدارة أزمات كهذه بشكل أفضل؟

بالطبع، فمنذ إعلان كوفيد-19 جائحةً من قبل منظمة الصحة العالمية، وصلتنا رسائل تعاون من كثير من شركائنا في القطاع الخاص، بمن فيهم سيسكو ومايكروسوفت التي عرضت علينا الاستفادة من منصة تيمز مجاناً لمدة ستة أشهر.

وعلى سبيل المثال، قبل كوفيد-19 كان من المستحيل أن تسمح لنا آبل بتحميل أي تطبيق لتتبع الأشخاص. أما اليوم نرى أنهم أنفسهم قد فتحوا هذه المنظومة حتى تستفيد منها الحكومات في مراقبة انتشار الوباء.

لقد كانت استجابة القطاع الخاص في الكثير من الدول أسرع من استجابة الحكومات، ويعود ذلك إلى أن معظم الحكومات تعمل بشكل بيروقراطي، بينما يتمتع القطاع الخاص بسرعة أكبر في التحرك والاستثمار.

ونظراً لتوافر البنية التحتية الرقمية في دبي، ولكون دبي مدينة رائدة ليس فقط في مجال الأعمال وإنما أيضاً في مجال الابتكار، فقد رأى مسؤولو شركات القطاع الخاص أنها من المدن التي يستطيعون أن يفتحوا فيها أبواباُ لمختبراتهم وتطبيقاتهم ونشرها بشكل مجاني غالباً للاستفادة منها، كما ندرس معهم كيفية تعديلها وتحسينها في المستقبل.

أعلم أنك من المؤمنين بالتحول الرقمي منذ مدة بعيدة وتعملين على تحقيقه والاستثمار فيه، برأيك كم عاماً دفعنا فيروس كورونا إلى الأمام في إنجاز هذا التحول؟ وهل وصلك السؤال واسع الانتشار على واتساب الذي يقول: “من ساهم بشكل أكبر في تحقيق التحول الرقمي في مؤسستك: الرئيس التنفيذي أم رئيس تنفيذ التكنولوجيا أم فيروس كورونا؟”؟

على الرغم من أن هذا السؤال على واتساب قد آلمني؛ فقد أمضيت 26 عاماً في هذا المجال، ولكني لا أخفيكم سراً، كانت هناك معارضة لعملية التحول الرقمي عند بعض الإدارات الحكومية التي كانت متخوفة منه انطلاقاً من حرصها على المجتمع.

لكن اليوم تبين لدى الجميع أنْ لا مفر من التحول الرقمي؛ حيث اضطرت الكثير من المنظومات والدول والمدن إلى إيقاف خدماتها وخسرت المليارات نتيجة عدم وجود منظومة رقمية تساهم في استمرارية العمل عن بعد أثناء إجراءات الابتعاد الاجتماعي والحجر الصحي. وكانت المدن والحكومات التي آمنت بأهمية التحول الرقمي هي الوحيدة القادرة على مواصلة العمل.

ومنذ عام 2000، كان لدى الشيخ محمد بن راشد إيمان قوي بأهمية الرقمنة وأدوات الثورة الصناعية الرابعة، وقد ساعدنا تبنيه الشخصي لهذه الأدوات في الإسراع من وتيرة العمل لإنجاز التحول الرقمي.

وعلى سبيل المثال، استطعنا مع شركائنا في هيئة الطرق والمواصلات تقديم رخصة قيادة السيارة بشكل رقمي كامل، لكن ظلت الحاجة إلى استلام هذه الرخصة وإصدارها بشكل مطبوع. لكن اليوم في ظل كوفيد-19، تمكنا من التخلص من الرخصة المطبوعة. فقد ساعد كورونا على إثبات أنه لا داع لها؛ حيث يمكن قيادة السيارة دون الحاجة إلى بطاقة مطبوعة، فالمعلومات موجودة على الهاتف ويمكن للشرطة التحقق من صحتها باستخدام المنظومة الرقمية.

لقد سرَّع كوفيد-19 فعلاً بشكل كبير عملية التحول الرقمي وأسهم جدياً في تقبل الناس -سواء مقدمي الخدمة او المستفيدين منها- لأهمية الرقمنة.

هل لديكم أي تعاون أو تبادل خبرات مع حكومات أخرى في المنطقة حتى تستفيد من تجربة دبي الذكية؟

لقد انطلقنا منذ البداية في دبي الذكية في رحلات مكوكية إلى جميع مدن ودول العالم لنشر معرفتنا والاستفادة من تجارب الآخرين. وفي الوقت الحالي، نتابع مشاركاتنا من خلال المؤتمرات عبر الإنترنت والاجتماعات الرقمية مع عمداء المدن في أوروبا وآسيا، للتعاون معهم في نشر بعض هذه التجارب مثل طريقة تخطيط حكومتنا للعمل عن بعد وقدرتها على تنفيذ ذلك خلال ثلاثة أيام. وفي المقابل، تعلمنا من تجاربهم، فقد استفدنا من التطبيقات المستخدمة في البحرين وفي سنغافورة.

بوصفك واحدة من الرائدات في منطقتنا والعالم في مجال التحول الذكي والمدن الذكية، وباعتبارك مؤمنة بأهمية التحول الرقمي والبنية التحتية الذكية، كيف تنظرين للمستقبل وما توقعك لما ينتظرنا؟

أرى أن المستقبل إيجابي ومشرق، حيث كشف لنا كوفيد-19 مدى جاهزيتنا، وأماطَ اللثام عن أسلوب حياة جديد. لقد كان الكثير من العاملين في جميع القطاعات غارقين في دوامة العمل وبعيدين عن أهلهم، أما اليوم فقد بيَّن لنا هذا الوباء إمكانية عيش حياة طبيعية مع أهلنا، وهذا بحد ذاته منحنا نافذة جديدة بأننا نستطيع أن نعمل وننجز، وفي نفس الوقت لا نضيع فرص قربنا من أهلنا وأحبائنا.

لذلك أنا أرى أن كوفيد-19 وفَّر وقفة صراحة مع الذات سواء على مستوى العمل أو على المستوى الشخصي. وإن شاء الله سنشهد نتائج جميلة في المستقبل القريب سواء على مستوى حكومتنا أو مستوى الاقتصاد. وأتوقع انبثاق أنواع جديدة من العمل في مجال الاقتصاد والأعمال والحكومة، تتيح لنا العيش برفاهية أكبر.

كان يتوقع الناس أن عام 2020 سيكون عام السيارات الطائرة، لكني أقول أن هذا العام هو عام يرسم معالم حياة أسعد وأبسط.

هلَّا تقدمين لنا نصائح مفيدة للعمل عن بعد؟

من المهم للغاية تخصيص مكان في المنزل خاص بالعمل، ويجب الاستيقاظ باكراً وتناول الفطور وكأنك ذاهب إلى المكتب. بالإضافة إلى تخصيص وقت يومي لممارسة الرياضة للحفاظ على صحتنا الجسدية.

ومن المهم أيضاً استغلال هذه الفترة -التي لن تتكرر- في قضاء الوقت مع أهلنا وأحبائنا، وتحديد الوقت الذي نمضيه على وسائل التواصل الاجتماعي ومتابعة الحسابات والقنوات الرسمية التي تنشر المعلومات الرسمية الموثوقة وعدم الانجراف وراء الإشاعات. وباختصار يجب أن نحسن استثمار وقتنا.

هل تودين توجيه كلمة أخيرة إلى متابعينا؟

أنا سعيدة بهذا اللقاء مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية، وأتمنى أن أكون قد استطعت منحكم لمحة عن أهمية الرقمنة وكيف استفادت دبي والإمارات من الاستثمار المبكر في هذا المجال مما جعلنا مستعدين لمواجهة الوباء. وبالنظر إلى عدد الإصابات في الدول حول العالم، فإن نسبة الحالات الموجودة في الإمارات متدنية جداً. وهذا الإنجاز لم يأتِ من فراغ بل لأن منظومتنا كانت جاهزة للتعامل مع أي طارئ. إن المتابعة الحثيثة لسمو الشيخ محمد بن راشد وسمو الشيخ محمد بن زايد لكل ما يحدث في الدولة يمنحنا الشعور بالاطمئنان والثقة، ونصيحتي للجميع: الزموا منازلكم.

كلمة ختامية

ما زلنا نتابع في إم آي تي تكنولوجي ريفيو تغطيتنا لأزمة فيروس كورونا من خلال سلسلة من المقالات والتحليلات والفيديوهات واللقاءات مع المختصين والمؤثرين؛ لشرح تأثيراته على مستقبل العمل والتعيلم، وعلى مستقبل القطاعات المختلفة وما ستؤول إليه، وكيف يجب أن تعيد ابتكار نفسها باستخدام التكنولوجيا والتقنيات الناشئة في ظل الظروف التي نشهدها.