اشترك

الاستمرار بالحساب الحالي

Preview
 
 
تاريخ النشرة : 10-01-2023
يكتبها هذا الأسبوع: عمرو عوض

قبل عدة سنوات، عندما قرأت عن مصطلح الذكاء الاصطناعي وتاريخ تطوره للمرة الأولى تبادر إلى ذهني كل مخزون الأفلام والروايات الخيالية التي تدور حول التقدم العلمي والآلات الذكية، والتي عادة إما تعمل لحماية البشر أو تحاول -في أغلب الأحيان- التحكم فيهم بمجرد وصولها إلى درجة معينة من التطور. بيد أن هناك رواية واحدة قاتمة تخطر في بالي كلما قرأت عن تطور جوهري جديد في مجال التكنولوجيا.

عالم متقدم بلا مشاعر
في روايته الخالدة "عالم جديد شجاع" المنشورة عام 1932، يصف الكاتب والشاعر الإنجليزي ألدوس هكسلي، كيف أن العلم والتطور التكنولوجي لا يدفعان البشرية دائماً نحو حياة أفضل. ففي عام 2540 (أو 632 بعد هنري فورد)، يصل العالم إلى "الدولة العالمية"، التي تتمحور بشكل رئيسي حول العلم والكفاءة والذكاء. وبالرغم من هذا التقدم العلمي الهائل، لا وجود تقريباً للمشاعر الإنسانية أو الحريات. فمنذ اللحظة الأولى، يتم تكوين البشر خارج الرحم واستنساخهم لزيادة عدد السكان. ثم يعيش الأطفال من لحظة ولادتهم حتى الممات في ظل نظام طبقي لا يمكنهم الخروج منه أو التمايز عن باقي أفراد طبقتهم.

على عكس روايات الدستوبيا (المجتمع الفاسد) التقليدية التي يعيش فيها الناس في بؤس وفقر مدقع في الغالب، يرسم الكاتب هنا صورة لمجتمع متقدم للغاية يبدو في ظاهره مثالياً وسعيداً لكنه في الواقع يفتقد للاستقلالية الشخصية ويعاني داخلياً. ويتكفل عقار يدعى "سوما" (تم تطويره أيضاً نتيجة التقدم العلمي) بتهدئة الناس وإيهامهم بالسعادة لتقبل هذا الوضع.

بعد نظر هكسلي
استشعر المتخصصون هذا النوع من التطورات الجوهرية منذ بداية عام 2022، بسبب وتيرة التقدم غير المسبوقة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)، والذي ظهر على هيئة عشرات البرامج القادرة على كتابة النصوص وتوليد الصور والموسيقى ومقاطع الفيديو، التي أطلقتها مختلف الشركات الكبرى والناشئة تباعاً على مدار العام. لكن كل هذا لا يقارن مع الدوى الذي أحدثه بوت "تشات جي بي تي" مع نهاية العام، والذي سمعه حتى أكثر الناس بعداً عن التكنولوجيا.

ويبدو أن الضجة التي صاحبت الإعلان عن "تشات جي بي تي"، ومسارعة الكثير من صناع المحتوى إلى مشاركة تجاربهم في استخدامه، والانبهار الواسع الذي صاحبه منذ اللحظة الأولى، قد أثار تفكير الكثير من الأشخاص لمقارنة مسار تطور الذكاء الاصطناعي الحالي مع ما تخيله هكسلي في روايته الكلاسيكية.

أحد هؤلاء الأشخاص هو عالمة اللغويات أبريل تشانغ، التي أجرت مقارنة شاملة بين عالم هكسلي وبين ما يبدو أن عالمنا المعاصر يتجه إليه. ترى تشانغ، في مقالة نشرتها مؤخراً في جريدة جنوب الصين الصباحية، أن بطولة كأس العالم وسلسلة هاري وميغان الوثائقية التي نشرتها شبكة نتفلكيس هما مثالان يثبتان بعد نظر هكسلي، لاسيما فيما يتعلق بالطابع العالمي الذي تخلقه التكنولوجيا وتصويره لأشياء مثل الاستهلاك والرياضة والجنس باعتبارها مصادر السعادة التي يعيش فيها "عالم ما بعد فورد". وفقاً للتقديرات، شاهد ما يصل إلى 1.5 مليار شخص مباراة نهائي كأس العالم، وشاهدت حوالي 28 مليون أسرة الجزء الأول من سلسلة هاري وميغان في غضون أربعة أيام فقط من صدورها.

"تشات جي بي تي" ومستقبل العمل
لكن على الرغم من أن هكسلي تناول الجانب السيئ في التقدم العلمي، إلا أنه لم يخطر بباله ما يمكن أن تحدثه تقنيات مثل "تشات جي بي تي" على مستقبل العمل. ففي عالمه كانت تتم تربية الناس وهندستهم بيئياً للعمل ولا يوجد مكان للعاطلين. اليوم، يبدو أن التكنولوجيا المعاصرة تفوقت على أسوأ تخيلاته، إذ بدأت فعلاً بالاستيلاء على الآلاف من وظائف البشر. بل إن قضية العمل أصبحت هي الشاغل الرئيسي للناس عند الحديث عن التقدم التكنولوجي.

وفي هذا الإطار، يقول باتريك شوارزكوف، عضو مجلس الإدارة التنفيذي في شركة "أي إف آر"، إن الجدل القائم حول استخدام الروبوتات بدأ يتطور سريعاً. ففي حين حذر بعض الاقتصاديين في السابق من أن الروبوتات التي يدعمها الذكاء الاصطناعي ستنهي عدداً كبيراً من الوظائف التي يقوم بها البشر، يرى صانعو السياسات الآن حاجة ملحة إلى تسريع الأتمتة لسد الفجوات في القوى العاملة، بسبب تقاعد جيل طفرة المواليد (المولودين بين عامي 1946 و1964).

لم يكد يمر شهران فقط على إطلاق "تشات جي بي تي" حتى أعلنت شركة مايكروسوفت عزمها على دمجه في محركها البحثي "بينغ"، على أمل جذب مستخدمي محرك جوجل البحثي المهيمن حالياً. مع هذه الوتيرة السريعة التي يسير بها التقدم التكنولوجي، لا يسع المرء سوى التساؤل عما إذا كنا نسير فعلاً نحو السعادة أم أن أفكار "العالم الجديد الشجاع" ستجد طريقها للتحقق على أرض الواقع؟


(إم آي تي تكنولوجي ريفيو)
Facebook
 
Twitter
 
Linkedin
 
Youtube
 
Instagram