تاريخ النشرة : 15-03-2022
يكتبها هذا الأسبوع: عمرو عوض
"تجاوزت البشرية -برغبتها في الراحة- حدودها. استغلت ثروات الطبيعة أكثر من اللازم. وبهدوء ورضا عن النفس، كانت تغرق في الانحطاط، وأصبح التقدم يعني تقدم الآلة". وصل العالم إلى نقطة التفرد. كل فرد يعيش الآن في عزلة في "خلية" تحت الأرض. يتبادل البشر المعرفة والآراء مع بعضهم البعض عن بُعد عبر "جهاز النطق"، ويشاهدون أصدقاءهم فيما يشبه الصور الهولوجرامية. الحياة تدور الآن حول النقاشات اللانهائية للأفكار بدلاً من التجارب الجسدية. لفترة من الوقت، توفر لهم آلة عالمية عملاقة جميع احتياجاتهم الجسدية والروحية. بعد فترة، يبدأ البشر بنسيان ماهية الآلة تحديداً، لدرجة أن بعضهم يشرع في تقديسها. لكن الآلة تدخل مرحلة الانهيار.
توقف الآلة
قد تعتقد أن هذه الرؤية السوداوية للعالم تستند إلى معرفة عميقة بأحدث تطورات الذكاء الاصطناعي والروبوتات، والتوجه الحالي للكثير من الناس إلى العمل من المنزل والتواصل مع أصدقائهم عبر فقاعة تكنولوجية. لكن العجيب أن هذه الأفكار وضعها الأديب البريطاني إدوارد مورجان فورستر، في أشهر رواياته "توقف الآلة"، التي نُشرت للمرة الأولى في جريدة أكسفورد أند كامبريدج ريفيو عام 1909، أي قبل أكثر من 100 عام!!
أعتقد أن أي شخص عمل لفترة طويلة بالقرب من مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات والأمن السيبراني، قد تساءل ذات يوم حول تأثيرها على عمله ومستقبله وعلى طريقة حياته وحياة أبنائه من بعده. بعد فترة يقوده هذا الأمر إلى التفكير في العلاقة بين التكنولوجيا والسعادة بمفهومها الواسع. لا أعني هنا مجرد التأثير السلبي للشركات والمنصات التكنولوجية الكبيرة -مثل فيسبوك وتيك توك وإنستقرام- على الصحة العقلية كما تشير الأبحاث والتقارير دائماً، وإنما تأثير التكنولوجيا على جودة الحياة وعلى مفهومنا للحياة السعيدة بشكل عام.
الأمان الوظيفي وتحسن الصحة
لنكون أكثر تحديداً يمكن أن نتحدث عن نقطتين بدأ تأثير التكنولوجيا -والذكاء الاصطناعي تحديداً- يظهر جلياً فيهما في الآونة الأخيرة: العمل والصحة. أولاً فيما يتعلق بالعمل، صحيح أن استخدام أدوات العمل من المنزل والاجتماعات الافتراضية قد جلب للأجيال الجديدة المزيد من الراحة والخصوصية مقارنة بالماضي، ولكن هل جلب معه الأمان الوظيفي؟ أعتقد أنه كلما ارتفع المستوى العلمي للشخص وازدادت مهاراته، أدرك أنه لو لم يستمر في التطور وإعادة التدريب، فإنه سيفقد عمله على الأرجح. بل يصل الأمر في بعض المهن إلى أنه مهما بلغت مهارات الشخص فعلى الأغلب سيفقد عمله آجلاً أم عاجلاً مع زحف الأتمتة للقضاء على الوظيفة نفسها، تماماً كما فعلت آلة حياكة الجوارب بصنّاع النسيج اليدوي في بريطانيا عام 1589.
في النهاية يصل المرء إلى قناعة أنه لم تعد هناك وظيفة ثابتة، وأن فكرة الاستمرار في نفس العمل حتى بلوغ سن التقاعد لم تعد متاحة، وبالتالي فالأمان الوظيفي بكل ما يحمله من راحة نفسية قد تآكل كأثر جانبي للتقدم التكنولوجي. ويشير استطلاع حديث للرأي إلى أن 20٪ من العمال يخططون للبقاء في وظائفهم لمدة أقل من عام واحد فقط. أعتقد أن آبائي وأجدادي لم يحتاجوا أبداً إلى تغيير عملهم (على الأقل مجبرين). النتيجة الحتمية هي أنك تتساءل: هل ساهمت التكنولوجيا في تحقيق السعادة في العمل؟
ثانياً، بالنسبة للصحة. صحيح أن التطورات التكنولوجية في مجال الطب ساهمت في عدد لا يحصى من الإنجازات، لدرجة أنها قد تقضي قريباً على الشيخوخة، إلا أنها من جهة أخرى أثرت سلباً على الصحة العامة. وقد توصلت دراسة أجرتها جامعتا "ييل" و"بنسلفانيا" الأميركيتين مؤخراً إلى أن نشر الروبوتات في المصانع بدلاً من العمال البشر تسبب في زيادة معدل الوفيات بين البالغين في سن العمل في الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى العلاقة السببية بين الأتمتة وزيادة معدل الوفيات، توصل الباحثون إلى أن "الأتمتة تؤثر سلباً على صحة الأفراد بشكل مباشر، من خلال تقليل العمالة والأجور والوصول إلى الرعاية الصحية، وكذلك بشكل غير مباشر من خلال تقليل الحيوية الاقتصادية للمجتمع الأوسع". هنا لا بد للمرء أيضاً أن يتساءل: بعد حساب الأرباح والخسائر، هل أثرت التكنولوجيا بشكل عام إيجاباً على صحتنا؟
ما هي الحياة الجيدة؟
طبعاً هذه ليست دعوة لترك التكنولوجيا والعودة للماضي، لكنها مجرد دعوة للتأمل في الهدف النهائي للتكنولوجيا في خضم التطورات التي لا نكاد نلتقط أنفاسنا للحاق بها، ودعوة للتفكير في أسئلة وجودية من قبيل: هل التكنولوجيا تجر البشرية إلى السعادة أم إلى حتفها؟ وهل سيساعد الذكاء الاصطناعي فعلاً على تآكل دوافع البشر وشعورهم بالهدف؟
في كتاب قديم نشر عام 1995، بعنوان "البيولوجيا الجديدة للآلات والأنظمة الاجتماعية والعالم الاقتصادي"، يقول الكاتب كيفين كيللي، أحد مؤسسي مجلة ويرد التقنية: "هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل مشكلة الجوع في العالم وأن يحقق السلام الأبدي؟ سنرى أنه عندما يحين الوقت، فإن حتمية أن يصبح الذكاء الاصطناعي أكثر ذكاءً من الإنسان قد أثارت العديد من الأسئلة حول بقاء الجنس البشري على المدى الطويل. نعم، هناك بعض الأساطير وبعض العبارات التي تم الإدلاء بها مؤخراً مبالغ فيها، ولكن ليس هناك شك في أنه إذا كانت أهداف الآلة غير متوافقة مع أهدافنا، فنحن نحتاج إلى أن نسأل أنفسنا ما نوع المستقبل الذي نريده؟ وما هي الحياة الجيدة؟".