أهلاً بكم في أقدم جزء من عالم الميتافيرس

12 دقيقة
مصدر الصورة: أريك روبر
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تتعامل العناوين الصحافية الحالية مع الميتافيرس على أنه حلم بمعالم غير واضحة ولم يتحقق حتى الآن، ولكن، إذا عرّفنا الميتافيرس كشبكة من العوالم الافتراضية التي يمكن أن نسكنها، فإن أقدم زواياه، والتي ما زالت موجودة حتى الآن، كانت تعمل منذ 25 سنة. وهي عبارة عن مملكة خيالية من القرون الوسطى تم بناؤها للعبة تقمص الأدوار على الإنترنت ألتيما أونلاين (Ultima Online)، والتي تحملت ربع قرن كامل من منافسة السوق، والتقلبات الاقتصادية، والتجاذبات السياسية. إذاً، ماذا يمكن أن تخبرنا به هذه اللعبة ولاعبوها، حول بناء العوالم الافتراضية للمستقبل؟

ألتيما أونلاين: دروس عن بناء العوالم الافتراضية للمستقبل

لم تكن ألتيما أونلاين –أو “يو أو” (UO)، كما يسميها معجبوها- أول لعبة خيالية على الإنترنت. ففي عام 1980، كانت ألعاب “الزنزانات متعددة المستخدمين”، أو ألعاب إم يو دي (MUD) اختصاراً، تقدم تجربة لعب تقمص أدوار مليئة بالمغامرات وتعتمد على التفاعل مع نصوص مكتوبة على حواسيب الجامعة المتصلة عبر شبكة أربانيت (Arpanet).

ومع ولادة شبكة الويب العالمية في 1991، ظهرت بضع ألعاب رسومية جديدة، مثل كينغدوم أوف دراكار (Kingdom of Drakkar) ونيفروينتر نايتس (Neverwinter Nights)، والتي تُتيح للعشرات أو للمئات من اللاعبين الاشتراك في عملية قتل الوحوش في الوقت نفسه، ضمن مساحة رقمية مشتركة. وفي 1996، ظهر نوع جديد من الألعاب باسم “الألعاب الجماعية فائقة الضخامة“، وتمكنت بعض الألعاب من هذا النوع، مثل بارام (Baram) وميريديان 59 (Meridian 59) من اجتذاب عشرات الآلاف من اللاعبين المشتركين الذين يدفعون رسوماً مالية لقاء اللعب.

اقرأ أيضاً: كيف تنشئ نسخة افتراضية منك لدخول الميتافيرس؟

إلا أنه في 1997، أحدثت ألتيما تحولاً في الصناعة بطموح ثوري: محاكاة عالم بأكمله. وبدلاً من بيئات صغيرة وسكونية لا تمثل عملياً سوى خلفية للمعارك، قدمت “أو يو” عالماً ديناميكياً ضخماً يستطيع اللاعبون ضمنه التفاعل مع أي شيء تقريباً، مثل التقاط الفاكهة من الأشجار، وسحب الكتب عن الرفوف وقراءتها فعلياً. وخلافاً للألعاب السابقة التي كان جميع اللاعبين فيها يتقمصون شخصية فارس أو ساحر بطل، قامت ألتيما ببناء مجتمع بديل كامل، حيث يستطيع اللاعبون تقمص شخصية خباز أو متسول أو حداد أو قرصان أو حتى سياسي.

ألتيما: أقدم عوالم الميتافيرس

أما الميزة التي قد تكون الأكثر أهمية، فهي أن ألتيما أتاحت للناس إمكانية العيش هناك فعلياً. ففي معظم الألعاب السابقة، كان اللاعبون يشغلون مساحات أثناء فترة تسجيل دخولهم إلى اللعبة، ولكن دون وجود دائم خلال فترات انقطاع الاتصال بالإنترنت. وتُتيح لعبة فوركاديا (Furcadia) للمستخدمين بناء مساحات صغيرة قابلة للتخصيص متصلة مؤقتاً بفضاء مشترك.

ولكن، وفي “أو يو”، فإن أي شيء يبنيه اللاعبون يبقى موجوداً، ويمكن للآخرين التفاعل معه حتى عندما يقوم اللاعب الذي بناه بتسجيل الخروج. وبالتالي، يستطيع اللاعبون بناء أكواخ أو قلاع دائمة في أي مساحة مفتوحة، وتزيينها وفق رغباتهم. كما يستطيعون تشكيل حكومات خاصة بالبلدات ضمن اللعبة، أو الاكتفاء بتفاعل اجتماعي مباشر مع صديق مقرب في أثناء تناول اللحم والعصير الافتراضيين. وباختصار، فإن هذه اللعبة تَعِد بأن تكون مكاناً بكل ما تحمله كلمة مكان من معنى.

وقد عكست هذه الرؤية الشاملة خلفيات فريق التطوير في أوريجن سيستمز (Origin Systems). فالمؤسس ريتشارد غاريوت أمضى عقدين تقريباً وهو يعمل على إنتاج سلسلة من ألعاب ألتيما المخصصة للاعب واحد، والتي ركزت بصورة متزايدة على حرية اللاعب والخيارات الأخلاقية المعقدة. أما المصمم الرئيسي للعبة يو أو، راف كوستر، ومعظم مبرمجيها الأساسيين، فقد اكتسبوا خبراتهم في ألعاب “إم يو دي” النصية، حيث أتاحت بنية الألعاب -التي لا تتضمن أي رسومات تتطلب قدرات حاسوبية عالية- التركيز على النمذجة الكمية العميقة بصورة غير مسبوقة في الألعاب.

وقد كانت مجموعة متزايدة من هواة ألعاب إم يو دي تجري التجارب على مدى عدة سنوات على عمليات محاكاة معقدة لأشياء مثل الزراعة، والطقس، وطب الأعشاب.

اقرأ أيضاً: تعرف على تاريخ الميتافيرس: عن تكنولوجيات سبقت ما نعرفه بكثير

وبحماسة شديدة لتطبيق هذه الأفكار على نطاق واسع، قام كوستر وزوجته كريستن (وهي تعمل أيضاً مصممة في أوريجن) ببناء نظام بيئي معقد للموارد، بشكل يبث الحياة في عالم لعبة ألتيما. فالعشب سينبت في الحقول، والحيوانات العاشبة ستأكل هذا العشب، وستقوم اللواحم باصطياد الحيوانات العاشبة. وبدلاً من الجلوس وانتظار التعرض للقتل على أيدي المغامرين، فإن التنانين ستسعى إلى تلبية احتياجاتها بصورة مشابهة لمثلث ماسلو للحاجات، أي الطعام أولاً، ومن ثم المأوى، وأخيراً الحصول على كنز لامع.

وهو ما يمكن أن يشجّع على تفكير إبداعي حقيقي. فبدلاً من قتل الوحوش الضارية لحماية بلدة مسالمة، يمكن للاعبين مثلاً جلب غزال شهي إليها. وفي الاختبارات التي أجراها الفريق ضمن الشركة، حققت هذه البنية نجاحاً رائعاً، وأحس الفريق أن خططهم الدقيقة وعمليات المحاكاة عالية المستوى يمكن أن تُتيح لهم سيطرة كبيرة على الإيقاع المتقلب للعب.

فوضى عارمة في عوالم افتراضية

ولكن الاختبار الأولي مع العامة كان بمثابة صدمة قوية. فقد دفع 50,000 شخص –وهو عدد غير مسبوق- مبلغ 5 دولارات (من أجل الاشتراك الواحد) للاشتراك المبكر في اللعبة، واندفعوا بأعداد هائلة يقتلون كل شيء في طريقهم في جميع أنحاء هذا العالم الافتراضي. وهكذا، لم تعش الأرانب بما يكفي حتى تصطادها الذئاب، كما تم قتل التنانين قبل أن يفكر أي أحد بدوافع سلوكها. لقد كان انهياراً شاملاً للبيئة.

ومع تعرض الخوادم للضغط الهائل بسبب عمليات الذكاء الاصطناعي، والتي لم يكن أحد يلاحظها على أي حال، اضطر الفريق إلى تدمير النظام بأكمله على مضض. وفي حادثة تبرز فقدان المطورين للسيطرة على النظام، تمكن أحد اللاعبين في نهاية المرحلة التجريبية من قتل الملك نفسه، أي الشخصية الإلكترونية لريتشارد غاريوت، اللورد بريتيش.

عندما تم إطلاق اللعبة الكاملة في سبتمبر/ أيلول من عام 1997، انطلقت موجات عارمة من اللاعبين في جميع أنحاء مملكة بريتانيا، وهم ينقرون على كل شيء، ويستخدمون آليات اللعبة بطرق لم يتوقعها مبرمجو أوريجن على الإطلاق. وسرعان ما لاحظت مجموعة من النجارين القتلة أن الأثاث الخشبي قادر على إعاقة حركة الشخصيات الأخرى. وهكذا، قاموا بسد بوابات مدينة كبرى بالمئات من الطاولات والخزائن، ونصبوا كميناً لأي شخص يحاول الهرب. واشتكى الضحايا إلى أوريجن، ولكن راف كوستر قرر اللجوء إلى حل يعتمد على المحاكاة بشكل أساسي. وهكذا، سارع الفريق إلى إصدار تعديل برمجي يُتيح للاعبين حل المشكلة بأنفسهم، حيث أصبح بالإمكان استخدام الفؤوس لتقطيع الأثاث.

وقد أدى سلوك آخر إلى استهداف محرك اللعبة (البرمجي) نفسه، وكان الحل أصعب بكثير. فقد قام بعض الماكرين بتجميع آلاف الأغراض في مكان واحد لبناء شيء أقرب إلى ثقوب سوداء تؤدي إلى توقف اللعبة عن العمل. كما استغل البعض عدم وجود نظام جاذبية في “يو أو” كي يطفوا في الهواء على الكراسي للدخول إلى منازل خصومهم ونهبها بالكامل.

اقرأ أيضاً: تعرف إلى لقاءات ميتافيرس الوجدانية: حيث يمكنك مشاركة أفكارك ومشاعرك حول الموت والحزن والألم

فقد قام بعض الماكرين بتجميع آلاف الأغراض في مكان واحد لبناء شيء أقرب إلى ثقوب سوداء تؤدي إلى توقف اللعبة عن العمل.

وأدت هذه الإخفاقات وغيرها، إضافة إلى أزمنة التأخير الكبيرة والأخطاء البرمجية العديدة، إلى استياء عارم بين اللاعبين. ولكن، حدث شيء غريب. فبدلاً من الخروج من اللعبة والتخلي عنها، كما يفعل معظم الناس عند عدم رضاهم عن منتج معين، فضّل الكثيرون البقاء والكفاح من أجل التغيير. وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام، تجمع جمهور كبير في العاصمة، متعرين من ملابسهم بالقدر الذي تسمح به برمجة اللعبة، ونظموا مظاهرة صاخبة في قلعة اللورد بريتيش. وبالنسبة لغاريوت، فإن هذا المستوى من الشغف باللعبة –وإن اتخذ شكلاً من أشكال الغضب- كان إثباتاً رائعاً على النجاح.

حكومة حقيقية في عالم افتراضي

ومع هذا، سرعان ما أدركت أوريجن أنها لم تعد مجرد شركة تكنولوجية، وإنما أصبحت حكومة حقيقية. وخلال فترة قصيرة، أصبحت هذه الحكومة مسؤولة عن أكثر من 100,000 مشترك، أي ما يزيد على تعداد بلدة تشارلستون في كارولاينا الجنوبية. ومن دون المؤسسات المدنية الموجودة في الحياة الحقيقية، مثل مجالس المدارس واتحادات العمال، لم يكن هناك أي منصة تُتيح للاعبين التعبير عن أمانيهم، والشعور بأنه يوجد من يصغي إليهم.

وهكذا، قام كوستر وفريقه بتنظيم جلسات “مجلس العموم”، حيث يتحدث المواطنون عن مطالبهم ومشكلاتهم مباشرة مع المطورين. وبهذا، تعرضوا إلى جهود مركزة وحثيثة من مجموعات الضغط المختلفة. فقد طالب السحرة بتقوية تأثير التعويذات، وإضعاف السيوف. على حين طالب السيافون بخلاف ذلك. لقد تعذر العثور على وسيلة لإرضاء الجميع، فليس هناك حل تقني مبتكر للتعامل مع هذه المشكلة. وتبين أن الطريق الوحيد نحو حل المشكلة هو العمل الحكومي الفعلي، أي التواصل، والتسويات، والشفافية.

اقرأ أيضاً: شركة «بيئة» الإماراتية تعرض نموذجاً افتراضياً لمقرها الجديد في عالم الميتافيرس

أما التساؤل الأكثر استعجالاً حول سياسة اللعبة فقد كان يتعلق بالإجراء الذي يجب اتخاذه إزاء القتل. فقد كان مفهوم غاريوت للعبة ألتيما أونلاين يشدد على حرية اللاعب في تقمص الأدوار، سواء الأدوار الخيرة أو الشريرة، ولهذا أتاحت اللعبة للاعبين القدرة على المهاجمة والنهب والقتل. ولكن المملكة تحولت إلى مسلخ حقيقي، حيث كانت عصابات “اللاعبين القتلة” الأقوياء تجوب المملكة، وتقتل أي شخص يضل طريقه خارج المدن الكبرى، والتي كان يحميها حراس يتحكم بهم الحاسوب، وقد كان هؤلاء الحراس حماة لا يقهرون ضمن نطاق المدينة، ولكنهم كانوا يتجاهلون الجرائم خارج نطاق سلطتهم، حتى وإن كانت بخطوة واحدة.

وعلى الرغم من أن العودة إلى الحياة كانت ممكنة، فإن الشخصيات كانت معرضة لسرقة كل مقتنياتها عندما تموت. ولهذا، عندما تعرض المشتركون الجدد الذين يملؤهم الفضول إلى فقدان كل شيء في رحلتهم الأولى إلى الغابات، قرر الكثير منهم تسجيل الخروج وترك اللعبة نهائياً.

ومرة أخرى، قرر كوستر دعم اللاعبين عبر تعزيز عملية المحاكاة، فقد أسس نظام مكافآت يتيح للضحايا عرض جوائز مالية لمن يقتل المجرمين. ولكن مجرمي اللعبة لم يرتدعوا، بل تعاملوا مع قائمة الجوائز على أنها أشبه بقائمة للمتفوقين في اللعبة. وتم تغيير عدة قواعد أخرى لاحقاً، بما في ذلك نظام “سمعة” يقوم بتتبع أفعال اللاعبين، ويطبق عقوبات على القتل غير المبرر. ولكن اللاعبين تمكنوا من إيجاد العديد من الثغرات التي أتاحت لهم تعذيب بعضهم بعضاً بأساليب لا يمكن للبرنامج أن يلاحظها.

وفي الواقع، فإن أكبر صعوبة واجهت المطورين كانت معرفة ما كان يجري في اللعبة فعلياً في المقام الأول.

وفي عام 2000، ترك كل من غاريوت وكوستر الشركة، ومع تواصل انسحاب المشتركين، قررت أوريجن اللجوء إلى حل حاسم. فقد قسمت عالم اللعبة إلى عالمين متطابقين: عالم فيلوتشا (Felucca)، حيث بقي العنف الهجومي متاحاً، وعالم تراميل (Trammel)، حيث أصبحت المواجهة القتالية بين اللاعبين مسموحة فقط في حال قبول كلا الطرفين. وما زال هذا الإجراء مصدر جدل حاد، حيث يقول المنتقدون إنه تسبب بالقضاء على الشعور بالخطر ضمن اللعبة، والذي كان يجعل “يو أو” فريدة من نوعها. ولكن المستخدمين صوّتوا على القرار بمشاركاتهم ورسوم اشتراكاتهم. وبصورة شبه فورية، غادرت الغالبية العظمى من البريتانيين إلى تراميل. ومع حرية اللاعبين في اختيار التجربة التي يرغبون بها، ازداد عدد المشتركين إلى 250,000 مشترك.

اقرأ أيضاً: ميتافيرس يعاني منذ الآن من مشاكل التحرش الجسدي

ولكن، وعلى التوازي مع أزمة قتل اللاعبين، ظهرت أزمة اقتصادية أيضاً. فقد كان نظام الموارد في اللعبة يتبع دورة مغلقة في بادئ الأمر، حيث كان يحتوي على كميات ثابتة من الذهب والمواد الخام. وكانت الخوادم تقوم بتوليد هذه الموارد الثمينة على كائنات منوعة تظهر في البراري الخطرة، أو في أعماق الزنزانات العفنة، مثل الغيلان والزومبي والرجال السحالي. وبقتل هذه الكائنات، كان المغامرون يحصلون على هذه الكنوز.

وعندما يستهلك اللاعب بعض الموارد، أو ينفق بعض الذهب في المتاجر التي يديرها الذكاء الاصطناعي، كانت هذه المواد تعود إلى مساحة تخزين مجردة يسحب الخادم منها لوضعها مع وحوش جديدة يقوم بتوليدها. ولكن هذا النظام تعرض إلى الانهيار بصورة شبه فورية، فقد كان اللاعبون يكنزون كل شيء يحصلون عليه بشكل جنوني، ما يمنع الكنوز الجديدة من الظهور. ولكن، وعندما قامت أوريجن بتغيير سياستها، وجعل دورة الموارد مفتوحة، أصبح نهب الوحوش مصدراً لتدفق الثروات ضمن النظام الاقتصادي للعبة، وتبعه التضخم المفرط.

مصدر الصورة: تقدمة من برودسورد/ إلكترونيك آرتس
هجوم مباغت عندما نسي مبتكر ألتيما أونلاين، ريتشارد غاريوت، أن يعيد تفعيل ميزة المناعة الكاملة لشخصيته الرقمية، اللورد بريتيش، وذلك خلال اختبار اللعبة مع العامة في 1997، تمكن اللاعب رينز من اغتياله بتعويذة سحرية نارية. مصدر الصورة: تقدمة من برودسورد/ إلكترونيك آرتس
اعمل بنفسك.تتيح “يو أو” للاعبين بناء منازل قابلة للتخصيص بصورة كاملة، مثل هذه القلعة من تصميم دوت وورنر في 2018. مصدر الصورة: تقدمة من برودسورد/ إلكترونيك آرتس
حفلة للأعياد. لقاء كبير ضمن اللعبة للاحتفال بعيد الميلاد في 2002. مصدر الصورة: تقدمة من برودسورد/ إلكترونيك آرتس

كان اللاعبون يبيعون ثرواتهم ضمن اللعبة لقاء أموال حقيقية في موقع جديد للمزادات العلنية باسم إيباي (eBay). في البداية، كان دولار أميركي واحد يكفي للحصول على 200 قطعة ذهبية بريتانية تقريباً، ما يجعل هذه العملات الخيالية أكثر قيمة من الليرة الإيطالية. وبعد سنة تقريباً، أصبح دولار واحد كافياً لشراء أكثر من 10,000 قطعة ذهبية. ومع ازدهار سوق السلع الافتراضية، أصبح “جَنْي الذهب” عملاً مزدهراً في العالم الحقيقي، حيث كان رواد الأعمال في الصين أو المكسيك يستأجرون المحليين للعمل طوال النهار في اللعبة لقاء أجور منخفضة.

عالم عانى من التضخم أيضاً

أما المصدر الآخر للتضخم فقد كان “الاحتيال”، أي الثغرات التي كانت تخدع الخوادم وتدفعها إلى نسخ المواد ومضاعفتها. وعلى الرغم من أن أوريجن بذلت قصارى جهدها لإصلاح الأخطاء البرمجية وحذف السلع المنسوخة، فقد دخلت إلى التداول بكمية تكفي للحفاظ على تواصل انخفاض أسعار الذهب. وعند اكتشاف الفساد لدى بعض “أسياد اللعبة” من خدمة العملاء، والذين كانوا يتواطؤون مع اللاعبين لتحقيق مآرب غير نزيهة، قام المشرف المباشر ريتش فوغل بتشكيل وحدة تحقيقات داخلية لمراقبة العاملين في اللعبة.

اقرأ أيضاً: ما يجب عليك معرفته قبل شراء نظارة واقع افتراضي مناسبة

وفي الواقع، فإن أكبر صعوبة واجهت المطورين كانت معرفة ما كان يجري في اللعبة فعلياً في المقام الأول. تحتاج الحكومات الحقيقية إلى أنظمة بيروقراطية ضخمة لجمع المعلومات حول اقتصاداتها. وقد يبدو أن هذا الأمر سهل المنال في العوالم الافتراضية، حيث كل شيء مصنوع من المعلومات حرفياً. ولكنه أصعب مما يبدو. فعند إطلاق اللعبة، كانت معظم أرقام ثروات اللاعبين مخفية بصورة يتعذر الوصول إليها ضمن ملفات النسخ الاحتياطي المخزنة بالنظام الثنائي ضمن الخادم. ودون وجود قياسات شاملة للذهب، لجأ راف كوستر إلى تتبع التضخم عبر أسعار إيباي (eBay). وقد احتاج إلى عمل محموم دام عدة أشهر لبناء أدوات تحليلية، ودمجها ضمن لوحات تحكم يمكن أن تساعده على اتخاذ القرار.

ومع توضح الصورة، أدركت أوريجن أنها تحتاج إلى أنظمة تصريف أفضل للذهب، آي آليات لمكافحة التضخم بسحب الذهب من اقتصاد “يو أو”. ولكن فرض الضرائب على الثروات المكتنزة كان يمكن أن يحدث ثورة لدى المشتركين. كما أن بيع الشخصيات الثرية أسلحة هائلة القوة كان يمكن أن يؤدي إلى سحب ما يكفي من الذهب لحل مشكلة التضخم، ولكنه كان سيؤدي إلى ظهور طبقة من اللاعبين الذين لا يقهرون، ما يؤدي إلى إفساد توازن اللعبة.

ولكن، توصلت الشركة إلى حل عبقري، يقوم على استخدام التعديلات الشكلية المميزة. وهكذا، أصبح بإمكان أفراد الطبقة الثرية في بريتانيا إنفاق ثمن قلعة صغيرة لشراء صبغة شعر مضيئة، وإذهال العامة بقصة شعر موهوك مصبوغة بلون أخضر فاقع. ولكن هذه الإجراءات كانت سطحية، وبحلول عام 2010، أصبح الدولار مكافئاً لما يصل إلى 500,000 قطعة من الذهب.

ماذا يعني بقاء اللعبة على الرغم من ظهور الكثير من المنافسين؟

وفي ذلك الوقت، كانت الألعاب المنافسة، مثل وورلد أوف ووركرافت (World Of Warcraft) قد اجتذبت معظم لاعبي يو أو. ولكن، وعلى الرغم من أن معظم الألعاب المشابهة توقفت، فقد وصلت ألتيما أونلاين إلى مرحلة الاستقرار، وحافظت على مجموعة أساسية من المستخدمين تبلغ ربما 20,000 مستخدم تقريباً، حتى بعد مرور ربع قرن على انطلاقها. ولكن، ما سبب بقاء هؤلاء المستخدمين؟

اقرأ أيضاً: من الخيال إلى الواقع: أبرز التقنيات التي تنبأت بها أفلام الخيال العلمي

يقول المشتركون الحاليون إن حس الانتماء والمشاركة الذي تقدمه “يو أو” لا يضاهى. وبفضل أنظمة تصريف الذهب ومحتوى التوسيع، إضافة إلى عوامل أخرى، فإن هذه اللعبة تتفوق حتى على الألعاب الحديثة من حيث خيارات تعديل الملابس والمساكن. ولهذا، فإن الطابع الأصلي للعبة، والمستوحى من تصاميم معارض عصر النهضة، تغير متحولاً إلى شيء أكثر غرابة. فعند التجوال في أراضي اللعبة حالياً، يكمن أن ترى غيلاناً ترتدي النظارات الشمسية، ورجال نينجا يرتدون دروعاً مشعة ويمتطون عناكب عملاقة. أما قرى العصور الوسطى الجذابة فقد انتشرت فيها القصور العصرية المبهرجة. ولكن، وحتى لو أدّت هذه التغييرات العشوائية والصارخة إلى كسر جو اللعبة، فهي في نهاية المطاف ناجمة عن اللاعبين أنفسهم.

من المستحيل على المصممين أن يتخيلوا جميع الطرق التي يمكن خرق النظام بها.

وعلى الرغم من هذا، فإن أهم عامل في الحفاظ على مجتمع اللعبة هو العلاقات والذكريات التي بناها أعضاء هذا المجتمع معاً. لا شك في أن الألعاب الأخرى مزودة برسوميات أفضل وميزات أروع. ولكن، أي مكان آخر سيتيح لصديقك -الذي يعيش في العالم الحقيقي في قارة أخرى- زيارتك للاستمتاع بفطيرة من السمك، والإعجاب بلوحة نادرة قمتما بسرقتها معاً خلال فترة إدارة الرئيس كلينتون؟

غالباً ما تتجذر هذه العلاقات بصورة شخصية للغاية، فهناك الكثير من اللاعبين الذين بنوا منازل افتراضية مع أهاليهم أو أصدقائهم الذين ماتوا لاحقاً في العالم الحقيقي، وهكذا، فإن الحفاظ على هذه المنازل يمثل طريقة للحفاظ على صلة مع هؤلاء الأحبة الذين فقدوهم. بل إن البعض التقوا شركاء الحياة الحقيقيين خلال حملات استكشاف الزنازين في منتصف الليل. وباختصار، فقد تحولت بريتانيا إلى مكان حقيقي، ولهذا فقد بقي الناس فيها للأسباب ذاتها التي تدفعهم لتقدير أي مكان في العالم الحقيقي.

لقد بلغ الشعور بالحنين درجة دفعت بعض المعجبين المخلصين إلى استخدام الهندسة العكسية لبناء التعليمات البرمجية المصدرية، واستخدامها على خوادم مجانية خارجة عن النطاق القانوني للعبة، وذلك للحصول على تجربة “نقية” تعيد تجسيد روح اللعبة في بداياتها. وتقاطر آلاف اللاعبين السابقين إلى هذه الخوادم. وقد قام أحد المعجبين بإطلاق خدمة تُتيح اللعب على متصفحات الويب. ويهدف مشروع آخر إلى دمج “يو أو” في الواقع الافتراضي.

بريتانيا في الميتافيرس!

وبوجود تكنولوجيات الميتافيرس التي تجعل الوصول إلى هذه العوالم أكثر سهولة، فليس من الصعب أن نتخيل تحول بريتانيا يوماً ما إلى مقصد للجميع، حيث ظهرت أولى براعم العوالم الافتراضية، وحيث تمت مواجهة أولى الصعوبات. وبالنسبة لمن يعملون على بناء الأجيال الجديدة من هذه العوالم، فإن بريتانيا يمكن أن تقدم لهم الكثير من الدروس القيمة.

وعلى سبيل المثال، وكما اكتشفت أوريجن بنفسها، فمن المستحيل على المصممين أن يتنبؤوا بجميع الوسائل التي يمكن للمستخدمين اللجوء إليها لكسر النظام، وبالتالي فإن الحفاظ على مسار الأمور هو أقرب ما يكون إلى حرب متواصلة تتطلب الكثير من المرونة والارتجال. وبالتالي، فإن منح المستخدمين المزيد من الحرية سيجعل هذه المهمة أكثر صعوبة بكثير، ولكنه يعني أيضاً تعزيز الشعور بالمشاركة، وزيادة تعلقهم بهذه العوالم وتجذرهم فيها.

اقرأ أيضاً: ما هي تقنية الهولوجرام وكيف تعمل؟

علاوة على ذلك، وعندما يسكن المستخدم في عالم افتراضي، فإن علاقته مع مصممي هذا العالم تصبح سياسية بشكل أساسي. قد يكون من الجذاب أن نتخيل إمكانية حل جميع مشكلات هذا المجتمع بالاعتماد على الابتكارات الهندسية وحسب، ولكن، ليس باستطاعة أي خوارزمية ذكية أن تلغي الحاجة إلى إدارة حكيمة. وعلى غرار سياسات العالم الحقيقي، فإن المواطنين في العوالم الافتراضية يستجيبون إلى التحفيز، كما يصعب التخفيف من السلوك المعادي للمجتمع دون نتائج غير محسوبة.

وفي نهاية المطاف، فإن هذه العوامل تعتمد على الصلات البشرية، لا الميزات التكنولوجية. ولهذا، يجب على المطورين أن يكونوا متواضعين بما يكفي للاعتراف بأن المحتوى الذي ينتجونه لا يشكل نواة هذه التجربة. وهكذا، وعندما يصل المسافرون إلى بريتانيا، يجب أن نتوقع أن الكثير من مواطنيها المؤسسين سيكونون في الانتظار للترحيب بهم.